محمد هنيد يكتب: حتى يُغيِّرُوا ما بأنفُسِهم

- ‎فيمقالات

دأبت السرديات السياسية العربية عبر تاريخ الانكسارات الطويل على تلطيف معجمها الوصفي وتليين عبارته فحوّلت الهزيمة إلى "نكسة" أو "نكبة" أو "محنة" بحثا منها عن تبرير الانكسار حتى يفلت المسؤولون من المحاسبة وحتى لا تدرك الشعوب جذور المعضلة. فخلال الهزيمة النكراء التي منيت بها الجيوش العربية مجتمعة في 1967 أمام فيالق الاحتلال انطلقت الأذرع الإعلامية التابعة للأنظمة في تبرير الهزيمة بأوامر عليا من قيادات العسكر في مصر وسوريا والأردن وبقية حواضر سايكس بيكو. قبلها بسنوات مُنيت نفس الجيوش بهزيمة أشد وأقسى في حرب 1948 التي سمّيت بالنكبة عندما تمّ دحر الجيوش العربية واحتلال فلسطين وإعلان دولة الاحتلال. 

إنّ تاريخ القوى العربية هو تاريخ الهزائم الممتدة انطلاقا من تأسيس أكذوبة الدولة الوطنية وصولا إلى سقوط بغداد على يد المحتلّ الأمريكي في 2003 وقبلها في 1991 بل وحتى سقوط سوريا على يد الجيش الروسي والمليشيات الإيرانية في 2015.
 
هذا عسكريا أمّا على المستوى الشعبي فإنّ ما نعيشه اليوم مع نهاية الطور الأول من ثورات الربيع يشكل حلقة جديدة في سلسلة الهزائم التي لا تنتهي. لكنّ الغريب اللافت في كل هذه الانكسارات أنها لا تقود إلى تقييم حقيقي ولا إلى مساءلة أي طرف من الأطراف التي كانت سببا فيها وهو الأمر الذي يعني أنها ستتجدد حتما وأنها لن تتوقف ما دامت شروط انبعاثها قائمة.

يقول قائل ما جدوى جلد الذات ؟ وما قيمة البكاء على الأطلال؟ وماذا نستفيد من نكْء الجراح؟ ليس هذا جلدا للذات ولا بكاء على الأطلال بل هو عمل في صميم علاج ورم قد استفحل بعد أن أخطأ الأطباء في تشخيصه وفي اقتراح العلاج المناسب له وهي اليوم مسؤولية جسيمة تسبق كل محاولات التغيير.

الوعي بالهزيمة طريقُ النهضة الوحيد 

كما أنّ الخطأ طريق إلى الصواب وكما أنّ السقوط طريق إلى النهوض فإنّ الهزيمة والوعي بأسبابها الحقيقية طريقٌ إلى النهضة والخروج من دائرة الانكسار كما عبرت عن ذلك كل تجارب الأمم والشعوب طوال تاريخ بناء سيادتها. الصين وروسيا وأوروبا وكل القوى العالمية كانت يوما ترزح تحت وطأة الهزيمة والانكسار وكانت تعاني الاقتتال والمجاعات والأوبئة وانتهاك السيادة لكنها نجحت بعد ذلك في جمع أوصالها المقطّعة وترميم خرابها وبناء نفسها. لم يكن المسار سهلا يسيرا بل كان مكللا بالتضحيات الجسام وبالعمل ثم العمل ومراكمة الخبرات حتى جاء اليوم الذي صارت فيه دولا ذات سيادة وإمبراطوريات يحسب لها ألف حساب.

فالصين التي نرى اليوم وهي تقارب على اكتساح العالم بتجارتها ومنتجاتها وجيشها العظيم كانت في يوم قريب دولة متخلفة تسبح على الأوساخ وتنهشها الدول الاستعمارية التي خاضت ضدها حرب الأفيون الأولى 1839وحرب الأفيون الثانية 1856. كانت الصين بكل مساحتها وعدد سكانها جاثية تحت وطأة الأفيون والسفارات الأجنبية وتحت حكم الجيش الياباني بصغر عدده. أما أوروبا فقد دمّرت الحرب العالمية الأولى ثم الثانية كل بنيتها التحتية وقتلت من السكان عشرات الملايين حتى انخفض عدد الذكور فيها إلى دون النصف وعانت الجوع والبرد والموت.

 
نجح الاحتلال ونجحت الحروب في تدمير هذه الحواضر دمارا كاملا لكنها لم تنجح في تدمير عقل الإنسان الأخلاقي الذي يسكنها. لم تنجح الهزيمة في كسر إرادة شعوبها ولم تفلّ في إرادتها ويقينها بالقدرة على البناء والنهوض من ركام الأنقاض. تحوّلت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية إلى كومة من الرماد بعد أن دكّها الحلفاء بآلاف من أطنان القنابل وسوّيت مدنها بالأرض ومات من سكنها الملايين من الرجال وصارت خرابا لا حياة فيه. كذا كانت اليابان بعد أن قُصفت بقنبلتين نوويتين ورُبط حول رقبتها كما حول رقبة ألمانيا حبل الاتفاقات الاستعمارية المذلّة التي كان الهدف منها قتل الإرادة الحرّة التي مدارها وقلب رحاها " العقل الأخلاقي الفاعل ".
 
العرب والهزيمة الأخلاقية النكراء 

لم ينهزم العرب عسكريا ولا اقتصاديا ولا ثقافيا ولا حتى عقائديا لأنّ هذه الهزائم على بشاعتها إنما هي نتيجة حتمية لهزيمة أخطر ضربت عمق الوعي الفردي والجماعي فأحالته أشلاء مبعثرة وأصابت قلبه بالشلل. هذا الشلل هو الذي يفسر حالة السكون الجماعية التي أصابت شعوب الأمة وهي تشاهد مسالخ ذبحها وتقطيع أوصالها من اليمن إلى سوريا فالعراق فلبنان وصولا إلى تونس والجزائر. بل حتى ثورات الشعوب الأخيرة إنما كانت واحدة من مشاهد ردة الفعل اللاواعية من الجسد الذبيح على بشاعة الجرائم اليومية التي لا تكاد تتوقف. 

فكيف يصمت شعب مثل شعب مصر وتعداده يفوق مائة مليون بشر على الدمار اليومي الذي يمارسه عسكر الانقلاب هناك ؟ وكيف لا تتحرك الشوارع العربية أمام بشاعة الجرائم والمجازر التي يرتكبها النظام الطائفي في حق أهل سوريا والعراق ؟ كيف ننام على شبع وأطفال اليمن يموتون جوعا ؟ كيف لأمة ملياري مسلم أن تصمت ومقدساتها تداس بنعال الغزاة والمحتلين وشراذم القتلة ولصوص الأوطان ؟ هل هي شعوب مخدَّرَة؟

نعم هي فعلا كذلك. هي واقعة شعوبا وأفرادا تحت تأثير أبشع المخدرات التي أصابت العقل الأخلاقي للفرد والجماعة بالشلل وانعدام القدرة على ردّ الفعل السويّ. لقد خسرنا أعز ما نملك. خسرنا أخلاقنا التي هي قوام شخصية الفرد والجماعة بفعل عقود من تجريف الوعي ومسخ العقيدة البنّاءة ومحاربة القيم ومطاردة المصلحين وقتل المعارضين وتهجير العقول المنتجة للقيم.
 
ليست الأخلاق طقوسا وقشورا أو مظاهر تدل على انتماء الفرد وورعه كما رسخّت ذلك أبواق أنظمة الاستبداد وأذرعها الدينية. وليست القيم خطبا أو مواعظ تُلقى ولا شعارات تُرفع ولا دروسا تدرّس بل هي الجوهر الذي يكون به الفرد ما هو فاعلا في ما حوله مغيّرا لحاله مستطيعا بنفسه قادرا على البناء والإعمار. الأخلاق فعل في الأرض وبناء في المجتمع وحركة في التاريخ أو لا تكون.
 
خذْ مثلا تاريخ الهزائم العربية كلّها. ألم تكن كلها من سقوط فلسطين إلى سقوط سوريا مرورا باحتلال العراق بسبب الوهن الداخلي للأفراد والجماعات ؟ كيف أمكن للغزاة دخول أرضنا والاستيطان فيها ثم حكمها بالوكالة دون تواطؤ الداخل أفرادا وأحزابا ونخبا وقبائل ؟ كيف سقط العراق ؟ كيف ذُبح اليمن ؟ من باع فلسطين؟

دعكْ من الغرب والصهيونية والامبريالية والجماعات الفلكية فهذه ليست إلا أكاذيب الاستبداد ونخب العار المرتبطة به والتي تريد من عقلك أن لا يبحث عن المجرم الحقيقي. هذه القوى قامت على الغزو والنهب والسلب وهي لا تغزو ولا تحتلّ إلا من كان يملك القابلية للغزو والنهب. لماذا نهضت ألمانيا؟ وكيف استفاقت الصين ؟ وكيف تحول اليابان إلى مارد اقتصادي وتكنولوجي عالمي؟  

الجواب بسيط: لقد حققوا شروط الفعل الحضاري بما هو الفعل المانع للسقوط والقابلية للسقوط. كانوا يملكون العقل الأخلاقي الذي مكّنهم من مغادرة مجال المفعول به إلى مجال الفاعل. وهو الأمر الذي فشلت النخب العربية في تحقيقه فلا يزالون إلى اليوم يدورون في نفس دائرة الضياع والتيه تقودهم بوصلة نخبٍ أفشلت عن قصد كل مسارات الخروج من دائرة الهزيمة والتخلف. 

الأخلاق طريق الخلاص الوحيد 

لا خلاف اليوم في أن الأمة أشلاء متناثرة و لا شك في أنّ الإنسان العربي يعيش أبشع أطوار عجزه الحضارية والجميع يتساءل : كيف السبيل إلى الخروج من المحرقة ؟ لا حلّ ولا مخرج إلا بترميم العقل الأخلاقي العربي بما هو رافعة كل القدرات السياسية والفكرية والعسكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية.
 
لا سبيل إلى ترميم الجماعة إلا بترميم بنية الفرد القادر على نسج طريق التحرر الياباني والألماني والصيني بأنامل عربية. قد يقول قائل لكنّ السياق اختلف والمكونات تباينت والزمان غير الزمان. نعم هذا صحيح لكنّ كلّ أمة قادرة على التحرر والنهضة مهما كان السياق ومهما اختلفت المكونات وتباينت الأزمنة متى توفرت إرادة النهوض التي لا تحقق إلا بتغيير محمول الفرد الأخلاقي الذي سيغير محمول الجماعة.

بل يمكن القول إن الأمة العربية والشعوب المسلمة تملك أكثر الأدوات قدرة على التحرر بخلاف باقي الأمم والشعوب لأنّ أغلالها أغلال وهمية واهية تنكسر تلقائيا متى توفر الوعي بالمحرقة وتجددت شروط المعرفة بالسياق وهو ما لا يتحقق إلا بتجديد البناء الأخلاقي القيمي للفرد العربي. لا يكون هذا البناء ممكنا إلا بتحريك الروافع المعرفية والأخلاقية السلوكية والعقائدية تحريكا يقطع مع تراث التوظيف الأيديولوجي والقبلي والحزبي والطائفي الذي لم يخلف غير السراب والوهم والفوضى.
 
يفترض هذا البناء أول ما يفترض القطع مع العقل الأخلاقي الطقوسي (هو عقل لأنه يمتلك منطق اشتغال داخلي ) الذي روّج له الاستبداد وفق شروط الوصاية الاستعمارية وهو العقل الذي كانت مهمّته الأساسية تتمثل في محاربة العقل الأخلاقي الخلاّق الذي هو جوهر المجتمع ومحركه الأساسي. الفعل الأخلاقي الطقوسي هو الفعل الذي نراه اليوم متحكما في المشهد القيمي الذي تشرف عليه وتحركه الأذرع العقائدية الدينية (وزارات الأوقاف والشؤون الدينية وما يتبعها …) والثقافية (المسرح السينما الإعلام الرياضة دور النشر …) والتربوية (المدارس والمعاهد والجامعات ورياض الأطفال… أي في كامل الفضاء الرمزي بما هو قاعدة بناء شخصية الفرد والجماعة.

إن ما تنشط فيه قوى الاستبداد المحلية المتحالفة موضوعيا مع مشاريع الهيمنة الخارجية من ترويج لكل أشكال الانحراف السلوكي والتفاهة الإعلامية وتطعيم التطرّف الديني والغلوّ الأيديولوجي ورفض الاختلاف وإقرار سلطة الرأي الواحد إنما تصب كلها في بوتقة الحرب على الفعل الأخلاقي البناء. وهي المشاريع التي شوهت البناء القيمي الأصيل وعمّقت من أزمة الأخلاق فغذّت سلوكات العنف والانحراف العقائدي الذي أنتج فيما أنتج الجماعات الإرهابية والفصائل المقاتلة والمجموعات المسلحة المهددة للسلم الأهلي والأمن الاجتماعي.
 
ليست موجات التفاهة والتسطيح وتفقير المعرفة وتشويه القيم عبر المنابر الإعلامية الضحلة والمناهج التربوية العقيمة وكل التعبيرات الرمزية والثقافية التي تكتسح المنطقة مستفيدة من الانفجار الرقمي الكبير إلا أبرز أدوات الحرب التي تحاول منع إعادة بناء العقل الأخلاقي الخلاّق.

……………

نقلا عن "عربي 21"