تباعاً، تساقطت كل الأكاذيب التي صنعها الاحتلال الإسرائيلي وتبنّتها تابعته الولايات المتحدة عن اغتصاب أسيرات صهيونيات لدى المقاومة الفلسطينية، إذ لم يتبنّ تقرير دولي واحد هذه المنتجات السامّة المصنّعة في ورش الدعاية الإسرائيلية، بل أن بعض الإعلام العبري نفسه سخر من هذه الروايات.
في مقابل كل هذا الانكشاف الصهيوني، لم يتنازل صهاينة الإعلام العربي عن اعتناق هذه الأكاذيب وترويجها، إذ يستخدمونها في النّيْل من المقاومة، مبدأً وفعلاً ودفاعاً عن الوجود الفلسطيني، وإظهار معارضي التمدّد الإسرائيلي تطبيعاً مع الدول العربية، وكأنهم كائناتٌ بدائيةٌ متخلفةٌ تنتمي إلى عصور الهمجية.
الآن، نحن بصدد تقرير صدر هذا الأسبوع، عن هيئة الأمم المتحدة، يُشير، بشكل واضح وصريح، أول مرّة، عن تعرّض فلسطينيات ومن بينهنّ معتقلات، إلى انتهاكات جسيمة وجرائم صارخة، ومنها اعتداءات جنسية، مثلما جرى مع معتقلتيْن من غزّة على الأقل تعرّضتا للاغتصاب، إضافة إلى عمليات تهديد بالاغتصاب وتعرية وتحرّش ضد النساء والرجال.
تقرير بهذه البشاعة، لو كنّا في زمن عربي آخر، لانتفض الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، ضاغطاً على أنظمة ترتبط مع الاحتلال بعلاقات مشينة، فمنهم من يرتزق من الغاز الذي يصدّره إلى المحتل، ومنهم من يطعمه البندورة، وكثيرون يسيّرون إليه القوافل محملة بالإمدادات القادمة من كل مكان. لكن وبما أننا في زمن عربي متصهين حتى النخاع، فإن أقصى ما يمكن للنظام العربي فعله محاولة تبرئة ساحته من الانتقادات والاتهامات الإسرائيلية التي تذهب إلى أنه منحازٌ إلى المقاومة الفلسطينية في غزّة، فيُسارع إلى نفي هذه الاتهامات والتشديد على حياديّته. لكنه في الواقع ليس محايداً، بل لا يمكن وصف كل هذه الرضوخ أمام العربدة الإسرائيلية إلا بأنها توافق وموافقة على حقّ الاحتلال في اتّخاذ ما يراه بشأن الشعب الفلسطيني الذي لا يكابد همجية العدو الصهيوني فقط، بل يعاني أيضاً من هذه الوداعة العربية المستكينة إزاء ما يجري له.
على أنه ليس النظام الرسمي وحده واقعاً في هذا العار التاريخي، بل تقاسمه هذا الموقف نخب مهترئة تُساق كالأغنام إلى الليالي الرخيصة في دار الأوبرا المصرية، مثلًا، أو تمرّ عليها تظاهرة ثقافية بحجم معرض الكتاب من دون أن ترفع لافتة واحدة، أو تنظم وقفة محدودة، للتنديد بجرائم الاحتلال.
كل هذه المشاهد والمعطيات تجعل”الخذلان” كلمة أصغر بكثير من القدرة على التعبير عن الوضع القائم، فعندما تكتفي بالفرجة على شعبٍ شقيقٍ يعيش حالة مجاعة حقيقية بعد 140 يوماً من العدوان، فأنت هنا لا تجسّد موقف خذلان، بل تشارك في جريمة ضد الإنسانية يرتكبها محتلون سفلة، لا ترغب في فقدان مصالحك المشتركة معهم.
وعندما تتحدّث تقارير دولية عن تعرّض نساء في غزّة للاغتصاب من جنود صهاينة، وأنت لا تحرّك ساكناً، ويكافئك المغتصب بكمياتٍ إضافية من الغاز الطبيعي المسروق من فلسطين، فأنت هنا لا تمارس خذلاناً على الشعب الفلسطيني، وإنما تتفانى في حماية مصالحك التي يحقّقها لك سكوتك المتواطئ مع المغتصبين. عندما لا تحرّكك مشاهد تدفق عشرات الآلاف من الشعب الفلسطيني المحاصَر على كمّياتٍ من المواد الغذائية والمعونات لا تكفي لاستهلاك المئات فقط، حيث لم تدخل سوى تسع شاحنات خلال عشرة أيام إلى منطقة تحتاج خمسمائة شاحنة يوميّاً، عندما تكتفي بمصمصة الشفاه والشكوى من أن إسرائيل لا تسمح لك بإدخال الشاحنات، فالموقف هنا لا تعبّر عنه مفردة الخذلان، بل لا يصلح معه إلا ألفاظ مثل التآمر والخيانة.
وأنت تتأمل كل هذا الخراب القيمي المخيّم، يأتيك ضوء من بعيد ينبئك بأن العروبة الحقّة هجرت بلاد العرب واستقرّت بعيداً في أقصى جنوب أفريقيا، وأقصى غرب كوكب الأرض في البرازيل، وهناك في الشمال الأوروبي حيث اسكتلندا وأيرلندا.
……….
نقلا عن “العربي الجديد”