لا أحد كان يصدق أن يحصل في العراق ما حصل ولا أحد كان يصدق أن قتل وتهجير الملايين من سوريا سيكون ممكنا ولا أحد كان يتصوّر أن تُباد غزة ولا يتحرك أحد. كل هذا كان خارج التصوّر والتوقّع على الأقل على المستوى الشعبي القاعدي لكنه حصل وحدث أمام أعيننا وعلى الشاشات مباشرة ولم يتحرّك أحد.
لا نتحدث هنا عن الأنظمة العربية لأنها شريك أساسي فاعل في الجريمة ولا عن المؤسسات الرسمية العربية المرتبطة بها لأنها أذرعها وأدواتها الفاعلة في المنطقة، ولكن نتحدث هنا عن القوى الشعبية والوطنية المختلفة بما فيها حركة الجماهير الشعبية في الشوارع والميادين.
لا تزال حرب الإبادة في غزة تحصد آلاف المدنيين بعد مقتل ما لا يقل عن ثلاثين ألفا معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ وعشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين ولم يتدخل أحد من دول الإقليم ولا من المجتمع الدولي لإيقاف المذبحة. مسار المذابح والمجازر في بلاد العرب لم يتوقف وهو مرشح للتصعيد مع توفر كل شروط الاشتعال والانفجار في أكثر من عاصمة عربية.
بناء على هذه المعطيات؛ ما هي الاحتمالات المستقبلية الممكنة بعد المجزرة؟ وما هي حروب الإبادة المقبلة؟ هل هي نهاية البدايات أم بدايتها؟ كيف يمكن أن نفهم مسار حركة الحريق في البلاد العربية؟
غزة لن تكون الأخيرة
بناء على ثلاثة معطيات أساسية يمكن القول إن ما يحدث من إبادة في غزة لن يكون الحركة الأخيرة، أولها، حجم القصف والتدمير الذي لم يعرف حدودا ولا سقفا يقف عنده لأنه شمل كل شيء من المباني إلى المستشفيات إلى المدارس إلى المؤسسات الحكومية وصولا إلى سيارات الإسعاف. وهو ما يؤكد أن المخطط يهدف إلى قتل كل حي وتدمير كل شيء.
ثانيا، استفادت المجزرة من دعم دولي غير محدود وهو دعم عسكري ودبلوماسي وسياسي كوّن غطاء سميكا لمواصلة الإبادة وقتل المدنيين.
أما ثالث المعطيات، فيتمثل في الصمت العربي الرسمي والشعبي الذي ساهم بشكل كبير في تواصل المذبحة واستمراراها.
بعد الانتهاء من غزة وإذا تواصلت وتيرة القتل على هذا النسق فسينتقل الحريق إلى عاصمة مجاورة وستكون القاهرة أكثر الدول قابلية لذلك للأسباب التالية: أولا ما تشهده مصر من انهيار حرّ في كافة المجالات وصولا إلى مجاعة تلوح في الأفق وهو ما سيقوّي أطماع الصهاينة في سيناء وأرض مصر وهو ما لن يكون ممكنا دون إشعال الرقعة المصرية كما حدث في العراق أو في سوريا. ثانيا لا تقتصر هذه القابلية على الداخل المصري بل تظهر كذلك في الإقليم المشتعل حولها شرقا في فلسطين المحتلة وغربا في ليبيا وجنوبا في السودان. بإسقاط مصر التي تُدفع اليوم نحو الانتحار دفعا يكون قلب المنطقة وعمقها الديمغرافي قد سقط بعد تقليم الأجنحة في سوريا والعراق واليمن وليبيا.
أما بقية الحواضر في شمال أفريقيا فإنها تسير هي الأخرى بسرعة نحو الانفجار بعد فشل كل محاولات التغيير والإصلاح الداخلي ووصول الاقتصاد فيها إلى أوضاع كارثية. وهو الوضع الذي دفع عددا من دول الخليج إلى المسارعة في التطبيع مع الكيان المحتل وفتح البلاد أمام كل أشكال الاختراق ظنا منها أنها ستكون بمأمن من الحريق.
ما يحدث في غزة وما حدث قبلها في العراق وفي سوريا والسودان وليبيا ليس إلا مقدمات لما سيحدث في كل الحواضر العربية تقريبا لأن الهدف واحد والمستهدَف واحد.
المقاومة أو الموت
ليست مقاومة الشعب الفلسطيني وضريبة الدم الباهظة التي يدفعها بالآلاف ترفا ولا خيارا ولا مغامرة، بل هي آخر وسائل الحياة. المقاومة في غزة هي آخر فعل بشري أمام آلة الموت التي لن ترحم أحدا اليوم أو غدا فخيار الشعب الفلسطيني بالصمود أمام الاحتلال الوحشي هو دليل على أن الجسد الفلسطيني وحده يرفض أن يموت.
أما بقية الحواضر العربية التي تظن أنها مستثناة من المذبحة فهذا دليل قصر نظر وجهل بقانون التاريخ لأن غزة لا تدافع عن فلسطين فقط وإنما هي في الحقيقة تدافع عن كل البلدان والشعوب العربية التي إن سقطت غزة فستسقط هي بعدها وما هي إلا مسألة وقت فحسب.
لن تتوقف حركة الإبادة العالمية التي تعود إلى البلاد العربية بقوة بعد فشل كل محاولات التغيير وانفضاح أكذوبة الدولة الوطنية التي هي في الحقيقة دولة العصابات ودولة القمع والاستبداد والفساد. لقد نجح النظام الرسمي العربي طوال أكثر من نصف قرن في تدمير كل محاولات الإصلاح الداخلية ففرض نظام حكم الفرد والعائلة والحزب حتى سقطت الحواضر واحدة تلو الأخرى.
بالأمس كان النظام العالمي حذرا من الصحوة العربية ومن قدرة الشعوب على إسقاط الوكلاء في الداخل، لكنّ المذابح التي أعقبت ثورات الربيع وما رافقها من قبول الشعوب عن قصد أو عن جهل وغفلة بالأمر الواقع هي التي جرّأت الصهاينة على إبادة غزة.
أخطر ما يحدث اليوم هو صمت الشعوب عن مذبحة غزة. الشارع العربي اليوم شارع مطحون مسحوق لكنه لا يتحرك فقد رسّخ قمع الثورات فيه أن الاستبداد قَدَرُه، فصار جسدا مخدّرا لا يقوى على الحراك. هذا السلوك هو إشارة على أن حركة الحريق الذي يشتعل في غزة لن تتوقف ما لم تتدارك الشعوب نفسها وتنتهز آخر فرص الخلاص لإيقاف النزيف وتعطيل مشاريع المجازر المقبلة.