يحرِّم الإسلامُ الذل، بجميع أشكاله، ويبرأ من كل مسلم يقبل العيش على أنقاض العزة والكرامة.. ذلك لأن الجهر بالحق وإنكار المنكر لا يقرِّب أجلًا ولا يباعد رزقًا، يقول النبى ﷺ: «ألا يمنعن رجلًا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه، فإنه لا يقرِّب من أجل ولا يباعد من رزق، أن يقال بحق أو يذكَّر بعظيم».
إن الذى يعطى الدنية فى دينه، لأى سبب، يقع فى دائرة سخط الله، ويعرِّض المجتمع الإسلامى للفتنة والخطر.. والذى يظن أنه يفعل ذلك تقيةً مخادع ومتقوِّل على الدين ما ليس فيه، فإن المسلم مرفوع الرأس عالى الكعب، نزيه.. أما المتردد الطامع فيما فى أيدى الآخرين فلا كرامة له ولا مروءة.
إننا -للعجب- نلمح معانى العزة عند خير الخلق محمد ﷺ فى أوقات عصيبة مرّت به؛ يمكن أن تعطى لصاحبها العذر فى التنازل والمساومة، غير أنه سلك -رغم هذه الظروف القاسية- مسلك الثبات وعزة النفس.. لقد حاول الكفار مساومته على دعوته لكى يجهضوها -بظنهم- فى بدايتها؛ باحتواء زعيمها، إلا أنه أطلق جملته المشهورة التى تنذر كل مساوم مترخص: «والله يا عم، لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته».. هى إذًا الثقة فى الله، واليقين فى نصرته، وعدم الخوف من البشر ولو اجتمعوا كلهم عليه.. لقد خافت إحدى بناته عليه فى هذا الوقت، فقال بلسان المتوكل على الله: «يا بنية، لا تخشى على أبيك غيلة ولا ذلة».
لقد أطلق الإسلام -فى أول مجيئه- مبادرة، تضمن سلامة المجتمع من الآفات الاجتماعية والنفسية، وتجعل هذا المجتمع بريئًا من الطبقية والاستبداد.. لقد جعل الرابطة التى تحكم هذا المجتمع هى رابطة الدين والعقيدة، ومن ثم فالمسلمون جميعًا، العربى منهم وغير العربى، يتمتعون بكفالة هذا المجتمع، وحمايته، لا فرق فى ذلك بين صغير وكبير أو غنى وفقير أو أحمر وأسود، يقول النبى ﷺ:» المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم»، ويقول ﷺ مؤكدًا مبدأ المساواة بين المسلمين: «إخوانكم [أى الخدم] خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يقل عبدى ولا أمتى، ولكن ليقل فتاى وفتاتى وغلامى».
وليس لمسلم عذر فى المسكنة وطلب الحاجات بذلّة ورخاوة، أو بمعصية الله، فإن الذين تُطلب منهم الحاجات لا يملكون قضاء حوائجهم؛ فكيف يستطيعون قضاء حوائج غيرهم.. يقول النبى ﷺ: «إن روح القدس نفث فى روعى: أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته».
والمسلم من أجل عزته وكرامة أمته، يخوض المنايا غير آبه لما يجرى عليه من تصاريف الأقدار؛ لأنها لا تخرج عن إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، أو التمكين أو العذاب العذب فى سبيل الله… وفى كلتا الحالين فإنه مقدام جسور، مستعين بالله، غير عاجز ولا متشكك.. وهذا عين ما صرح به عبد الله بن رواحة فى مؤتة، عندما رأى ترددًا فى الجيش، قال: «يا قوم، والله إن التى تكرهون للتى خرجتم لها تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا كثرة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذى أكرمنا الله به، فإن يظهرنا الله به فربما فعل، وإن تكن الأخرى فهى الشهادة، وليست بشرِّ المنزلتين».