اختفاء لافتة “شقة للإيجار” من شوارع إسطنبول

- ‎فيمقالات

 

"سجدت لله شكراً على مغادرة مستأجر الشقة التي كان يستأجرها مني منذ 3 سنوات بقيمة 1300 ليرة، تأخر في سداد الإيجار لمدة أسبوع فأنذرته أمام المحكمة، ورغم ذلك لم يستطع السداد بسبب حالة تعثر مالي يمر بها نتيجة الظروف المالية الصعبة، بعدها غادر الشقة في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر الجاري، في نفس اليوم قمت بتأجيرها بأكثر من 4000 ليرة".

كان هذا هو تعليق فاروق أغا صاحب بناية تقع في منطقة بيلك دوروز وبالقرب من مول "مرمرة بارك" الشهير، والذي تتشابه سعادته مع حال آلاف الأتراك من أصحاب العقارات وشركات البناء والتشييد.

مالك آخر أبدى سعادة كبيرة حينما ابلغه مستأجر برغبته في ترك الشقة، يصف حاله قائلاً: "كدت أن أطلب من زوجتي إطلاق زغرودة طويلة تعبيراً عن فرحتنا بهذا الخبر السار الذي ينتظره ملايين الملاك، وعلى الفور قلت للمستأجر: سآتي بنفسي لمساعدتك في عملية الانتقال إلى وحدة سكنية أخرى، أنا من المحظوظين فلم أضغط على المستأجر، بل ترك الشقة بمحض إرادته لأنّه يرغب في الانتقال إلى ولاية تركية أخرى أرخص سعراً وأقل تكلفة، وربما العودة إلى بلده الأصلي العراق بعدما باتت الحياة صعبة ومكلفة داخل إسطنبول وتفوق قدرته الشرائية وملاءته المالية".

ظاهرة ممارسة الضغوط الشديدة من قبل أصحاب وملاك العقارات على المستأجرين لطردهم ودفعهم إلى ترك الوحدات التي يستأجرونها لتأجيرها لآخرين بإيجار أعلى قد يصل إلى ثلاثة أضعاف قيمة الأجرة القديمة باتت منتشرة في مناطق مختلفة من مدينة إسطنبول المكتظة بالجنسيات المختلفة، خصوصاً السورية والمصرية والعراقية واليمنية، وليست هي الظاهرة الوحيدة التي يتسم بها قطاع العقارات التركي هذه الأيام، فهناك ظواهر أخرى منها مثلاً اختفاء لافتة "شقة للإيجار" من شوارع إسطنبول وغيرها من الولايات التركية خصوصاً أنطاليا، أو على الأقل تراجع الظاهرة مقارنة بسنوات مضت.

قبل أزمة كورنا كانت لافتة "شقة للإيجار" تزين بعض البنايات في شوارع مدينة إسطنبول السياحية الضخمة، كان من السهل أن تجد هذه اللافتة موجودة على بنايات إدارية وسكنية فخمة وشوارع حية في وسط المدينة العريقة مثل منطقة الفاتح وأيوب، أو على أطراف المدينة، خصوصاً في الجزء الأوروبي مثل بيلك دوزو وايسنيورت وغيرها.

الآن تغيرت خريطة القطاع بالكامل في ظل تهاوي الليرة الأخير، فهناك إقبال شديد من المستثمر الأجنبي على شراء عقارات للاستفادة من تهاوي سعر العملة المحلية، خاصة من قبل الراغبين في الحصول على جنسية تركية، كما يقول محمد عبد الرؤوف، خبير التثمين العقاري والمدير التنفيذي لاحدى شركات الاستشارات، وهؤلاء المستثمرون يعتبرون أنّ الشراء الآن بات فرصة في ظل الأسعار المنخفضة إذا ما تم تقييمها بالدولار وليس بالعملة المحلية.

يقابل ذلك فورة من أصحاب الشركات والمستثمرين لإقامة وحدات جديدة للاستفادة من الطلب المتزايد، خاصة من قبل المستثمر الأجنبي، سواء الراغب في الحصول على أرباح رأسمالية عالية أو حيازة الجنسية.

كما أنّ الأسعار مرشحة للزيادة في الفترة المقبلة، مدفوعة بمبيعات قوية، وفق رئيس جمعية الترويج العقاري التركي بالخارج، عمر فاروق إقبال، الذي أكد أنّ بلاده بصدد تحقيق رقم قياسي جديد في مبيعات العقارات للأجانب بحلول نهاية العام الجاري، وأنّهم يتوقعون تحقيق عائدات بقيمة 7 مليارات دولار.

بل إنّ أردال إرين، رئيس اتحاد المقاولين الأتراك توقع ارتفاع أسعار مبيعات المساكن بنسبة ما بين 50 و60% على الأقل في العام المقبل 2022 بسبب تراجع سعر الليرة وارتفاع أسعار مواد البناء عالمياً.

في مقابل الإقبال الكبير على شراء العقارات من قبل المستثمر الخارجي وأصحاب الملاءة المالية الضخمة، فإنّ هناك حالة إحجام شديد عن الشراء من قبل المواطن التركي يفسرها رؤوف في عدة أسباب، كما قال أبرزها انتظار الأتراك خفض سعر الفائدة المفروضة على التمويل العقاري لأقل من 10% مقابل 15% حالياً، وهو ما يوفر لهم مبالغ ضخمة خصوصاً أنّ 50% من الأتراك يشترون العقارات من خلال البنوك وعبر التمويل العقاري وعلى سنوات طويلة، وبالتالي فإنّ خفض الفائدة بنسبة 5% يساعدهم في شراء مساحات أكبر وبنفس السعر.

هذا المشهد تكرر في عام 2018 حينما صعد سعر الفائدة إلى 24%، هنا عزف الأتراك عن شراء العقارات وراهنوا على تراجع السعر، وهو ما حدث بالفعل، فقد تراجعت الفائدة إلى 8.75%، وهو ما خفض العائد على التمويل العقاري بدرجة كبيرة، وبعدها شهد قطاع العقارات هجوماً من قبل الأتراك الباحثين عن حيازة وحدة سكنية لأغراض السكن أو العائد.

أما السبب الثاني لعزوف الأتراك عن شراء العقارات هذه الأيام فيكمن في أنّ أسعار العقارات باتت عالية وتفوق القدرة الشرائية لمعظم المواطنين، وبالتالي فإنّ السيولة التي كانت متوافرة لديهم التهمها التضخم المرتفع وقفزات أسعار السلع الغذائية، فالتضخم تجاوز 21% في أحدث بيانات يعرضها معهد الإحصاء التركي.

الظاهرة الأخرى التي يشهدها قطاع العقارات التركي هذه الأيام هي دخول نوعية جديدة من المستثمرين الأجانب، فهناك توقعات بقدوم المستثمر الإماراتي مع أجواء المصالحة الأخيرة بين أنقرة وأبوظبي وفق سماسرة عقارات، وهناك زيادة على شراء العقارات من قبل مواطني الجمهوريات السوفييتية السابقة مثل كازاخستان وأذربيجان وأوزبكستان، وكذا جمهورية الشيشان الروسية، وأيضاً هناك إقبال من الباكستانيين والأفغان والصينيين والإيرانيين، إضافة الى المستثمرين التقليديين من سورية ومصر والعراق وإيران واليمن وليبيا والصومال وروسيا.

وهناك توقعات بعودة المستثمر السعودي الذي اختفى منذ عام 2018 عقب تفجر قضية مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده والتي أزّمت العلاقات السعودية التركية.

وإذا كان بعض العاملين في قطاع العقارات التركي يتوقعون أن تكون الزيادة في الشراء في الفترة المقبلة من قبل الخليجيين خصوصاً مع التطورات الإيجابية الأخيرة في العلاقة بين تركيا ودول مجلس التعاون، فإنّ رئيس جمعية الترويج العقاري التركي في الخارج، عمر فاروق إقبال، قال في تصريحات سابقة: "يمكن للصين أن تتصدر قائمة المشترين، في حال القيام بالترويج الصحيح وإصدار بعض اللوائح المنظمة والاهتمام بجودة خدمة ما بعد البيع، ومنح تراخيص للمؤسسات الوسيطة في عمليات البيع".

وكانت الصين وهي أكبر مشترٍ للعقارات على مستوى العالم، دخلت لأول مرة في 2020 ضمن قائمة المشترين للعقارات التركية، وهؤلاء يمكن زيادة استثماراتهم في العقارات في تركيا بسهولة، خصوصاً مع التضييق الذي يتعرض إليه رجال الأعمال الصينيون داخل بلدهم.

الإقبال على شراء العقارات التركية زاد مؤخراً من قبل الولايات المتحدة بنسبة 200 بالمائة مع تفشي وباء كورونا وفق إقبال، إضافة إلى ازدياد الطلب على الشراء من قبل مواطني بريطانيا وباكستان وكازاخستان.

ورغم هذا الاقبال من تلك الجنسيات يحتل الإيرانيون المرتبة الأولى بين الجنسيات الأكثر شراء للعقارات في تركيا يليهم العراقيون ثم الروس.

ومن أبرز المناطق التي تشهد زيادة في الطلب من قبل الراغبين في شراء عقارات إسطنبول التي تحتل المرتبة الأولى، وداخل إسطنبول تأتي مناطق باشاك شهير وإسينيورت وبيلك دوزو وأرناؤوط كوي.

وعلى مستوى الولايات تأتي انطاليا في المرحلة الثانية ثم بورصة ثم يلاوا فسكاريا ثم كوجيللي وفي مرتبة متأخرة تأتي أزمير والعاصمة أنقرة.

الوقت مناسب للشراء كما يقول المدير التنفيذي لإحدى الشركات العقارية، محمد القرشي"، ويبرر ذلك بأن أسعار العقارات التركية مرشحة للزيادة في ظل الإقبال الشديد على الشراء من قبل المستثمرين الأجانب، والطفرة التي شهدتها الأسعار عقب تهاوي الليرة في الفترة الأخيرة، وارتفاع تكلفة مواد البناء، وكذلك زيادة سعر المواد الخام بنسبة 113% خلال الفترة من مارس 2019 وحتى أكتوبر 2021. كما أن العمالة التي تمثل نحو 10% من تكلفة الإنتاج بدأت تشهد زيادة.

وباعت تركيا نحو 2.8 مليون عقار خلال الـ11 شهراً الأولى من العام الجاري، وشهد شهر نوفمبر الماضي وحده إجراء 357.4 ألف معاملة بيع عقار بحسب بيانات صادرة عن وزارة البيئة والتخطيط العمراني والتغير المناخي، وبلغت الزيادة في الأسعار نحو 30%.

ويدلل القرشي على ذلك بزيادة سعر المتر في الإنشاءات الجديدة والتي تتراوح ما بين 20 و25 ألفاً في مناطق مثل بيلك دوزو وباشاك شهير.

بل إنه يرى أن المعروض العقاري بات شبه منعدم في بعض المناطق كما هو الحال في بلدية باشاك شهير في ظل تراجع المشروعات السكنية الجديدة والوحدات المعروضة للبيع، وذلك في مقابل طلب متزايد من قبل الراغبين في الشراء.

وبرزت ظاهرة أخرى متنامية في قطاع العقارات التركي يرصدها المدير التنفيذي لإحدى الشركات العقارية الواقعة في إسطنبول، وتتمثل في أن المشتري بات يحجز المرحلة الثالثة من عقار تحت الإنشاء بعد أن نفدت المرحلتان الأولى والثانية في ظل زيادة الطلب، فالمعروض بات لا يلبي كل الاحتياجات المطلوبة والمتزايدة.

وهناك نقطة أخرى يجب أخذها في الاعتبار عند رصد الظواهر الحديثة في قطاع العقارات التركي وهي أنّ بعض المستثمرين يسارعون للشراء خوفاً من قيام الحكومة التركية بزيادة المبلغ المطلوب للحصول على الجنسية التركية والبالغ 250 ألف دولار حالياً كما يقول القرشي.

وهذه النقطة تدفع المستثمرين إلى المسارعة في عملية الشراء خوفاً من تضاعف المبلغ المطلوب للحصول على جنسية عبر الاستثمار العقاري. ولذا فإنه ينصح بالشراء الآن إذا كان الشخص يخطط للحصول على الجنسية.

ورغم الطفرات التي يشهدها سوق العقارات التركي فإنّ أطراف السوق، وفي المقدمة المستثمر والمشتري في حالة توتر شديد في ظل استمرار تهاوي الليرة، فالمبيعات تاريخية ولم تحدث من قبل كما يقول محمد رؤوف، لكن أصحاب العقارات ومكاتب السمسرة لا يشعرون نفسياً بالعوائد الضخمة في ظل استمرار تهاوي العملة المحلية وعدم وجود أفق زمني لذلك التراجع.