الحج.. من ذاق عرف

- ‎فيمقالات

لا يعرف معنى الحج إلا من أدى الفريضة؛ إذ مهما قرأ فى صفة الركن يبقى منفصلًا عن الإحساس بروحانيته، والشعور بعظمة هذا الدين وفضله على العالمين؛ ما جعل العلماءُ يعدونه أفضلَ العبادات وأجلَّ الطاعات إذا ما توافر فيه الإخلاص والاتِّباع، وقالوا باستحباب التعجيل به لمن وجب عليه؛ (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ… ) [البقرة: 196]، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ… ) [البقرة: 148]، ومن مات ولم يؤده وهو عليه قادر فقد مات عاصيًا.

فـ«الحج» لمن أدَّاه بالشروط المتعارف عليها فى صفة «الحج المبرور» يعد نقلة إيمانية كبيرة فيها: تهذيب النفس، وتطهير القلب، واجتماع المؤمنين فى أطهر بقاع الأرض، وبه روحانية لا تجدها فى غيره؛ من التجرد لله وترك الآل والمال والمحبوبات، ومن الخضوع والعبودية لله، ومن الاعتراف بالذنب والمعصية، والبكاء على عتبات الرحيم التواب. ولأنه يبدأ بالتلبية فهو استجابةٌ وجدِّيَّةٌ فى السير إلى العزيز الوهاب فى طريق «إبراهيم الخليل» الذى دعا الناس يومًا ليأتوا إلى بيت الله المحرَّم، أول بيت وُضع للناس، من كل فج عميق.

وإنَّ أعظم أيام الحج: يوم عرفة، قال النبى ﷺ: «الحج عرفة»، أى لا تتم الفريضة إلا به، وهو أفضل أيام الله، وخير يوم طلعت عليه الشمس، يوم إتمام الدين وإكمال النعمة؛ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا…) [المائدة: 3]، ولا يدرك معانى الأحاديث التى وردت فى فضله إلا من جلس فوق الجبل فذكر الله، وهلل وكبَّر، ودعا وابتهل، ورأى تلك الجموع الهادرة تفعل فعله، فى تناغم عجيب وسلام أعجب لا يكون إلا فى الإسلام وعلى أرض «عرفة».

ولو علم من لم يحج فضل هذا اليوم، وهو قادر، ما تأخر عن اللحاق بركب الحجيج، ولو علم به غير القادر لدعا ربه فى ليله ونهاره وسره وعلانيته أن يبلغه أداء الفريضة؛ يقول النبى ﷺ: «ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهى بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادى جاءوا شُعثًا غُبرًا ضاحين، جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتى ولم يروا عذابى، فلم يُرَ يومًا أكثر عتقًا من النار من يوم عرفة».

وفى هذا اليوم يُستحب، للحاج ولغير الحاج، كثرة التكبير والتهليل، والذكر والاستغفار، وكثرة الدعاء بخشوع ويقين؛ لقول النبى ﷺ: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون قبلى: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له»، ويستحب الصيام لغير الحاج، كما يُستحب له تذكُّر المشهد وصور الحجيج وهم يؤدون النسك: فى إحرامهم وطوافهم وسعيهم وترويتهم وتصعيدهم وإفاضتهم وفى رميهم وذبحهم إلخ؛ فإن هذا مما يؤجج الشوق ويزيد الحنين إلى بيت الله الحرام، ويحرر القلب من أسر الدنيا وشهواتها، ويجدد الأمل فى النفوس بنهوض هذه الأمة من كبواتها.

ونتذكر فى هذا اليوم عزة الإسلام وقوته واجتماع بنيه، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، فى صعيد واحد، وفى ميعاد واحد، لشعيرة واحدة، وهو ما يغيظ أعداء الإسلام ويجعلهم دائمى التفريق بينهم، وصرفهم عن هذا الدين بشتى السبل، بل إن هذا الموقف يغيظ الشيطان نفسه؛ لقول النبى ﷺ: «ما رُئى الشيطان يومًا هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه فى يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما رُئى يوم بدر».

وفى هذا اليوم، يوم عرفة، نتذكر أيضًا ما جاء من حِكَمٍ نبوية، فيما عُرف بـ«خطبة الوداع»، والتى تمثل منهج الإسلام ومواد دستوره فى أمور عدة؛ منها حقوق الإنسان ووجوب حفظ الدماء والمساواة بين البشر، وحقوق المرأة ووصاية الإسلام بها، وعدم المزايدة على فقراء الشعوب والمتاجرة بأقواتها، وإمكانية التوافق الدولى وقبول الآخر من دون إعنات، وأن ما يجمعه الحج لإخوة الدين تجمعه السياسة بكل تأكيد ما لم تلوثها خطط الكارهين للمنهج الإسلامى الذين يتبعون سَنَنَ أعداء الدين شبرًا بشبر وذراعًا بذراع.