الأبعاد الأخرى لــ “سيف القدس”.. الهزيمة الثقافية للرواية الصهيونية

- ‎فيتقارير

لم تقف هزيمة الكيان الصهيوني في العدوان على غزة عند صواريخ المقاومة التي وصلت إلى تل أبيب وحدود مدينة أم الرشراش المصرية المحتلة في الجنوب "إيلات"، ولا حتى عندما أجبرت ملايين الصهاينة على اللجوم ليل نهار إلى الملاجئ خوفا من صواريخ المقاومة، بخلاف الشلل التام الذي ضرب الحياة في إسرائيل فقد توقفت المطارات والقطارات وأغقلت الشركات والمحلات والمقاهي أبوابها، لكن هناك بعدا آخر للهزيمة على المستويين الثقافي والإعلامي.

فقد أضر القصف الإسرائيلي بالرواية الإسرائيلية في الأوساط العالية وخصوصا بين جيل الشباب (بينهم شباب يهود) في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وراحت تروج في الأوساط الحكومية الغربية عبارات مثل "الفصل العنصري" لوصف الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في حي الشيخ جراح والأقصى وداخل الخط الأخضر. وبلغ الأمر بوزير الخارجية الفرنسي والذي تمارس حكومته تمييزا وعنصرية  بحق المسلمين   أن عاير حكومة الاحتلال بذلك. حيث سارع وزير خارجيتها جان إيف لودريان، إلى تحذير إسرائيل من احتمال توافر مكونات "فصل عنصري"، فجُن جنون نتنياهو، وردّ بشكل عنيف تماماً، واستدعت تل أبيب السفير الفرنسي "ووبَّخته".

مجلة «Foreign Policy» الأمريكية، ترى أنه مهما كانت النتيجة العسكرية لحرب غزة، يبدو من المُرجَّح بشكلٍ متزايد أن الحساب النهائي لهذه الجولة الأخيرة من الصراع سيُحدَّد بعيداً عن ساحة المعركة. تقول المجلة الأمريكية إنه ربما اختار نتنياهو الوقت الخطأ لشنِّ غاراتٍ جوية بإصرارٍ ضد واحدةٍ من أكثر المناطق كثافةً سكَّانية على وجه الأرض، حيث إن 50% من السكَّان تقل أعمارهم عن 15 عاماً. وبشكل أكثر تحديداً، ربما اختار اللحظة الثقافية الخطأ.

وتضيف أنه على غرار الحروب الإسرائيلية السابقة على غزة، مثل عملية الجرف الصامد في عام 2014، فإن ما يقرب من 1 من كلِّ 4 قُتلوا في غزة لم يكن مدنياً فحسب، بل كان أيضاً طفلاً (66 من إجمالي 248 وفاة). ومع ذلك، لم يغيِّر الجيش الإسرائيلي تكتيكاته ولم يضبط استخدامه للقوة، واستمرَّ في استعراض القدرات الجوية لقوةٍ عسكريةٍ عظمى ضد أبراجٍ شاهقة لسكَّان فقراء مُحاصَرين.

وبحسب المجلة الأميركية فإن الاختلاف هذه المرة هو التعبير العنصري عن العنف، الذي أذن بتحوُّلٍ في تأطير الصراع، بشكلٍ مثيرٍ للاهتمام، في الوقت الذي يحدث فيه النقاش الأكبر عالمياً حول العنصرية النظامية.

وتؤكد أن جيل الشباب الجديد يرفض النظرة الغربية التقليدية للصراع العربي الإسرائيلي، فالنقاش حول العرق في إسرائيل وفلسطين لديه القدرة على اكتساب قوة جذبٍ بين جيل الشباب الذي يتحدَّى بلا كللٍ الأحكام الجاهزة السابقة بشأن القضايا العالمية؛ من تغيُّر المناخ إلى عدم المساواة الاقتصادية. ويشكِّل اليهود الأمريكيون الشباب قوةً حاسمة في هذه الرمال الثقافية المتحرِّكة، وهم يكافحون من أجل التوفيق بين وجهات نظرهم التقدُّمية بشأن السياسة والعرق من ناحية وأفعال إسرائيل من ناحيةٍ أخرى، ويتساءلون: "لماذا يعني الوطن الآمن لنا إخضاع الآخرين؟".

كما تقف الحركة العالمية، مثل حركة حياة السود مهمة، في تضامن مع الفلسطينيين، فإنها تلفت الانتباه إلى النضال الأساسي والعالمي من أجل التحرُّر من العنصرية، حسبما ورد في تقرير Foreign Policy.

ووفقا للمجلة الأمريكية فإن مشاهد الدمار غير المبررة للعدوان الإسرائيلي على غزة بدأ البعض في الولايات المتحدة يتحدثون علنا عن كون إسرائيل نظاما للفصل العنصري، حسبما ورد في مقال نشر بمجلة The American Prospect الأمريكية لسارة ليا ويتسون، المديرة التنفيذية لمنظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي (DAWN)، والمديرة التنفيذية السابقة لقسم شؤون شمال إفريقيا والشرق الأوسط بمنظمة "هيومن رايتس ووتش".

في هذه الحرب، كما حروب إسرائيل على الفلسطينيين وقطاع غزة، تداولت وكالات الأنباء فيها صورا لجثث أطفال متفحمة في غزة -59 طفلاً من بين 212 فلسطينيا على الأقل قتلهم القصف الإسرائيلي حتى يوم الإثنين 17 مايو- ولقطات لمبانٍ سكنية مدمرة ومحترقة وعائلات مفزوعة تفر من منازلها تحت وقع الغارات الإسرائيلية، لكن كل هذه المشاهد ليست جديدة، فقد شاهد العالم صورا ولقطات كثيرة مثلها في كل حرب سابقة لإسرائيل على قطاع  غزة و(لبنان).

تلفت سارة ويتسون إلى أن الجديد والمختلف نوعياً هذه المرة هو الانتقادات الثاقبة والحادة التي لا تلتمس أعذاراً لإسرائيل -ولا للسياسة الأمريكية التقليدية التي لطالما أمدَّت إسرائيل بمليارات الدعم العسكري السنوي غير المشروط على مدى العقود الماضية- التي ما تنفك تتسرب إلى الخطاب العام السائد وروايته حول الأحداث.

فقد بدأت هذه الانتقادات تشيع في أوساط مذيعين أمريكيين مشهورين إلى مراكز أبحاث في واشنطن، ومن قاعات الكونغرس الأمريكي إلى الاحتجاجات بشوارع بوسطن ونيويورك ولوس أنجلوس والعاصمة الأمريكية واشنطن وحتى ولايات مثل ميامي وبورتوريكو وكليفلاند وأوكلاهوما.

ويرى خبير استطلاعات الرأي جون زغبي، الذي لطالما عارض المواقف الأمريكية بشأن الشرق الأوسط، أن هذا التحول "جذري ومزلزل"، ويزيد تعاطف الأجيال الأصغر مع الفلسطينيين، وهذه الهوة العمرية أصبحت واضحة تماماً داخل الحزب الديمقراطي، حسبما ورد في تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".

وفي الوقت الذي يعبر فيه الرئيس الأمريكي جو بايدن عن وجهات نظر تقليدية، ويؤكد مراراً حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد صواريخ حماس، يجد أن الأجواء الحزبية المحيطة به تعبّر عن قلقها، على أقل تقدير، من ظروف معيشة الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وترى أن السياسات الإسرائيلية تزيد من مآسيهم.

وبحسب المجلة الأميركية فإن مداهمات شرطة الاحتلال للأقصى في شهر رمضان وليلة القدر، وإطلاق قنابل الصوت والصواعق، وضرب الرصاص المطاطي في أحد أقدس المواقع الإسلامية، والتهجير القسري الوشيك للعائلات العربية في حي الشيخ جرَّاح بالقدس، والاشتباكات العنيفة بين مواطنين يهود وعرب في عدة مدن، مِمَّا يثير شبح "عمليات القتل الجماعي". إضافة إلى الصفحات التي أنشأها المتطرفون الإسرائيليون على وسائل التواصل الاجتماعي تحمل أسماءً مثل "الموت للعرب"، حسب Foreign Policy. ثم الاعتداء الوحشي، الذي جرى في 12 مايو على رجلٍ عربي جُذِبَ وسُحِلَ من سيارته وهوجِمَ على يد حشدٍ من المتطرِّفين اليهود في إحدى ضواحي تل أبيب، قد نُسِّقَ عبر تطبيق تليغرام.

كل هذه الأحداث سلطت الأضواء على أن إسرائيل تمثل نمطاً استعمارياً تقليدياً طالما سعت الرواية الإسرائيلية الرسمية إلى استبعاده. ولكن الواقع أن إسرائيل تمثِّل القوة المحتلة للأراضي الفلسطينية. وحتى داخل ما يسمى بالخط الأخضرتضيف المجلة الأميركية أنه يجري التمييز ضد المواطنين العرب على أسسٍ عرقية بطريقةٍ منهجية توصَف بشكلٍ متزايد بالفصل العنصري. والعدد الكبير من الاعتقالات ولوائح الاتهام ضد العرب بعد أحداث العنف الأخيرة بين العرب واليهود هو فقط مؤشِّرٌ أحدث على الأمر. وكما لاحظ الطبيب النفسي والفيلسوف فرانز فانون قبل 60 عاماً، فإن ما يفرز العالم الاستعماري هو حقيقة الانتماء أو عدم الانتماء إلى جنسٍ معين.

وحتى بالنسبة لحركات المقاومة الفلسطينية التي تروج إسرائيل أنها منظمات إرهابية عنيفة لا شرعية لها في إطار التوظيف السياسي لما تسمى بالحرب على الإرهاب، لكن مقاتلي حماس يرتكزون إلى شرعية الوعد بالمقاومة العسكرية ضد الظالم، حسب تعبير الصحيفة الأمريكية. في الوقت نفسه، فإن ظروف الاحتلال الوحشية تجعل من الصعب على أشكال المقاومة اللاعنفية التنافس مع الحركات المسلَّحة.