التجريد من الملكية بعد التجريد من الحرية

- ‎فيمقالات

حكى لى زميل أن قريبًا له من مؤيدى الانقلاب يملك بيتًا فى إحدى المدن الجديدة، بناه وأثثه بعد غربة وعناء زادت على عشرين سنة، ومنذ نحو سنتين أعلنت الحكومة عن إمكانية «التعلية» فى حدود دور أو اثنين فى مقابل مبلغ يُدفع للحى. ولما كان للرجل ولدان لم يتزوجا وهما بحاجة إلى شقتين فقد سارع بإخراج ما تبقى لديه من مدخرات وسدد «مبلغًا محترمًا» للحى ووضع الباقى فى عملية البناء. ثم لما ظهر قانون التصالح فوجئ بخطاب يطالبه بتسديد مبلغ (300) ألف جنيه عن الشقتين وإلا الهدم! بح صوته لإقناعهم بأنه بناهما بمعرفة الحى وحصل على التصاريح المطلوبة.. لكن لا حياة لمن تنادى. دفع الرجل المبلغ مضطرًا ليتفادى الإزالة. فلما شرع فى تشطيب الشقتين سمع بقانون «التسجيل العقارى» فأصابه -كما يقول قريبه- ما يشبه الشلل.

قلت لزميلى: هذا هو المسار الطبيعى لمن (سلّم القط مفتاح الكرار)، ولمن فرّط فى حريته؛ إما أنانية منه وقصر نظره على مصالحه الخاصة دون مصالح الوطن وما يرتبه ذلك من دعم الباطل، أو جهلًا وحمقًا، ففى الحالين لا عاصم من الاعتداء على ما يملك المواطن، ولا ضمانة لأن يعيش آمنًا سالمًا من الفقر والمرض والقهر.

إن الجملة التى قالها الرئيس الشهيد محمد مرسى من أنهم سيرهقون الشعب إلى أقصى مدى حتى يأتوا له بـ«قعر الزبالة»، أراها كرامة ورؤية ثاقبة لهذا الرجل المخلص -رحمه الله-؛ فمنذ قالها وإلى الآن نرى «الحاوى» يخرج كل يوم شيئًا من «جرابه» يؤذى به الناس ويفسد عليهم معيشتهم. وهذه أمور اتفقت عليها أنظمة الطغيان، يستنون فى ذلك بفرعون الأمة الذى وضع قانونًا يجيز مصادرة أموال الشعب الذى رضى بالعبودية لمن يحكمه؛ (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الزخرف: 51].

إذًا من تنازل عن حريته تحت أى دعوى وأى مبرر فلينتظر المحنة، ولا يصرخ، ولا يسترحم الناهب فإنه لن يسمعه؛ ولو سمعه فلن يستجيب لغوثه؛ فإن البحر لا يشبع، والمستبد لا يخشى الإمعات الذين سلموا له رقابهم، ولا يلومن أحدهم إلا نفسه وقد أُعطوا الخيار فاختاروا، بل إن فيهم من استحل الدماء والأعراض والأموال من أجل حماية هذا الخيار الفاسد، وأسألهم اليوم: هل وجدتم ما وعدوكم حقًّا؟ أم وجدتم الزيف والكذب والخداع؟ وبالطبع لن يرد أحدٌ منهم؛ صلفًا وغرورًا.

ليفهم ذوو الورطات أن الحرية لا تؤجل ولا تُستبدل ولا يُساوم عليها، فهى التى تحمى الأرواح والأملاك والأوطان، وهى التى تأتى بالأمن والغنى والوعى والسلامة البدنية والنفسية، وغير ذلك عبث ودجل، وقد رأينا من يقول: أنا القانون إذ لا قانون أو دستور سواى، ولا تشريع غير تشريعى وفتاواى، فرفع الأسعار وتوسّع فى الجباية، وهدم البيوت ونادى فى الناس: لا رأى لكم، ومن يخالفنى فليذق عذابى وقهرى وليبحث له عن وطن بديل.

أما حماية الملكيات فهو حق إنسانى أقرته الشرائع والقوانين الدولية، ولم تُترك أموال الناس نهبًا لمن يعتدى عليها أو يسلبها أو يحرم صاحبها منها بطريقة أو أخرى من طرق العسف؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ…) [النساء: 29]. والمواطن ليس مسئولًا عن فشل الطغاة فى إدارة الدول والمؤسسات، بل هم من يُحاسبون عن هذا الفشل والفساد اللذين طالا كل شىء حتى صرنا ندور فى حلقة مفرغة من الهمِّ والكرب لا ندرى أعلى الوادى من أدناه.

ولو استقامت الأنظمة الحاكمة لكان فى استقامتها عِوضٌ عن هذا النهب المفزع، فليس فى عُرف المستقيمين هدرٌ ولا فسادٌ ولا شبهة. وهناك العديد من الفرص لسد العجز الذى سببه الطغاة ويدفع المواطن المسكين ثمنه الباهظ، أسرع هذه الفرص: الكشف عن حساباتهم فى بنوك سويسرا والغرب، بل الكشف عن ممتلكاتهم فى الداخل، وقد فضحتهم الثورة فكان لأحدهم، وليس له أولاد يخاف على مستقبلهم، عشرات الفلل والقصور والأراضى الزراعية والمساحات الفضاء والبواخر واللنشات إلخ، نهبها بعدما عُدمت الرقابة والمحاسبة. ومؤخرًا أُعلن عما تركه مبارك، بمناسبة مرور عام على رحيله، ما قدره البعض بما يزيد على «التريليون» جنيه، ثم يقنعوننا بأن هؤلاء (…..) يعملون لصالح البلد!