كتب سيد توكل:
يرى الشيخ محمد الغزالي "رحمه الله تعالى" أن أسباب الثورات هي: شيوع الظلم، ومصادرة الحريات، وسلب ضرورات الجماهير، يقول في كتابه "الإسلام المفترى عليه"، "العدل هو المساواة التي لا تعطي أحدا حقًّا ليس له، ولا تبخس إنسانًا شيئًا من مقومات حياته الكريمة!. غير أن الدنيا كانت عند سوء الظن بها! فما لبثت حقوق الأمم المعقولة أن وضعت على موائد المترفين، فأكلوها أكلا لَمًّا، وسلب الألوف ضروراتهم ليُتخَم بها أفراد، وصودرت حريات شتى ليشبع طغيان الكبر عند الأوغاد، وقد تُقلب بعض صحائف التاريخ فتسمع بها ضجيج الثوار الذين حطموا الأصنام، وهتكوا حجاب الخرافات المقدسة، ولكن صحائف التاريخ الطويلة، عليها صمت مريب، كأنما هو صمت القبور، التي ماتت فيها الآمال، وذلت فيها الرجال من طول ما توارثت البشرية من عسف وطغيان وتشريد".
وتحل اليوم "9 مارس" ذكرى وفاة الشيخ الغزالي، أحد أهم كبار المجددين في الفكر الإسلامي.
ويطرح المراقبون سؤالا.. ماذا استفاد الثائرون على حكم العسكر من فكر الغزالي؟ الشيخ الغزالي كان مهموما بتقدم أمته، ظلّ إلى آخر رمق يشد أزرها، ويجمع قوتها، لكيلا تتخلف عن ركب التقدم العالمي، ويا للمفارقة، فقد فاجأته أزمة قلبية، توفي على إثرها وهو يلقي محاضرة في الرياض بعنوان “الإسلام والغرب"!
الثورة والبنا
أشعر بالرضا وأنا أعترف بأني من تلامذة حسن البنا ومحبيه، وحاملي أعباء الدعوة الإسلامية معه، أعرف أن ذلك يبغضني عند كثير من الناس! ليكن.. فقد تعلمت من الرجل الكبير: أن المؤمن يسترضي الله وحده، ويطلب وجهه الأعلى، ولا يبعثر محابَّه هنا وهناك فلا يظفر بشيء" هكذا لخص الغزالي الارتباط الروحي بينه وبين الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين.
يقول الغزالي: "أنا واحد من الذين صحبوا حسن البنا، وتربوا على يديه، وأفادوا من علمه.. كنت وما زلت تلميذًا لحسن البنا؛ أذكر دروسه وأترسم خطاه، وأفيد من تجاربه، وأنا مستبشر بدعائه لي ورضائه عني، ونظرتي إلى ذلك الإمام الشهيد أنه من قمم الفقه الإسلامي، ومن بناة أمتنا الفقيرة إلى الرجال، بل هو بلا ريب مجدد القرن الرابع عشر الهجري، وأشهد بأن له بعد الله الفضل الأول في توجيهي وتثقيفي".
وبما أن قدر جماعة الإخوان المسلمين أن تتصدر ثورة 25 يناير، فمن المهم معرفة أن نجاح الثورات والنهضات مرهون بشروط متى تحققت نجحت الثورة، ومتى غابت لم تُحقق الثورة نجاحًا يذكر؛ ولهذا يرى الشيخ "الغزالي" أن من شروط نجاحها التمهيد لها بأدبيات تملأ النفوس وتشحذ العقول وتحمس الهمم بما يحقق يقظة إنسانية عالية وشاملة.
يقول الشيخ في كتابه "نظرات في القرآن": "إن نجاح النهضات وبقائها يرتبطان بمقدار ما تستند إليه من مشاعر وأفكار، بل إن الارتقاء الصحيح لا يكون إلا معتمدًا على خصب المشاعر ونضارة الأفكار؛ ولذلك لابد في الثورات الاجتماعية الكبرى من ثورات أدبية، تمهد لها، وتملأ النفوس والعقول إيمانًا بها.. وقد تعتري الأمم هزات موقوتة، أو انكسارات وانتصارات سريعة، وقد يصيب الحضارات مد وجزر لأسباب شخصية أو محلية، وذلك كله ينظر إليه المؤرخون نظرة عابرة، ولا ينتظرون من ورائه نتائج بعيدة المدى، أما النهضات التي تصحبها يقظات إنسانية واسعة، وتحف بها عواطف جياشة ونظرات عميقة؛ فهي أمر له خطره، وله ما بعده".
كما أن من شروط نجاحها -عند الغزالي- تحقق الوحدة على اختلاف المشارب والأفكار، فمتى تخلى الجميع عن رؤاه الخاصة ومكاسبه المحدودة، وذاب مع غيره في إطار تحقيق هدف واحد ومصلحة كبرى تحقَّقَ النجاح بلا ريب؛ ولهذا قال تعالى: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا"، أما حين تجتمع الأجساد وتتفرق العقول والأرواح فهنا يكون الفشل المؤكد، ويقوم المرتزقة بسرقة الثورات ووراثتها.
يقول الشيخ في كتابه "الحق المر": "سمعت قائلا يردد في ألم: نحن متفرقون على حقنا، وهم مجتمعون على باطلهم! فقلت له: ما أحسب المتفرقين على حقهم أصحاب حق، فطبيعة الحق أن يجمع أهله! إن أعدادا كبيرة من السائرين تحت لواء الحق تكمن في بواطنهم أباطيل كثيرة، فهم يحتشدون بأجسامهم فقط تحت رايته، ويبدو أن المآرب الكثيرة، والأغراض المختلفة، تجعل لكل منهم وجهة هو موليها، وذاك في نظري ما جعل ثورات عديدة تسرق من أصحابها، ويسير بها الشطار إلى غاية أخرى! حتى قيل: الثورات يرسمها المثاليون وينفذها الفدائيون ويرثها المرتزقة!! ترى لو كان المثاليون والفدائيون على قلب رجل واحد في الإيثار والتجدد أكان يبقى للمرتزقة موضع قدم؟. إن أخطاء خفية، نستخف بها عادة، هي التي تنتهي بذلك المصير!".
هوى النجم الساطع
ذكرى رحيل الغزالي تثير أسئلة كثيرة عن نجاح ثورة شعب ضد الاستبداد والقمع العسكري، وتزرع الأمل في النفوس التي تردد أنها لا ترى طحنا، وتضع الجميع أمام مسئولية الإجابة عن سؤال لماذا اختفى المجددون للثورة؟ وماذا قيل عن هذا الإمام الثوري الذي افتقدته الأمة الإسلامية وهي تخوض حربا ضروسا ضد أعدائها في الداخل وهم جنرالات انقلاب 30 يونيو، والخارج وهم الحلف الأمريكي الروسي الإيراني الصهيوني؟
البداية من أحد أهم المقربين من الشيخ الراحل وهو الشيخ د.يوسف القرضاوي الذي نشر في وقت سابق، مقالا قديما له بعنوان "وأخيرا هوى النجم"، نعى فيه العلاّمة الغزالي، وجاء في مقال القرضاوي: “وأخيرا هوى النجم الساطع، واندك الجبل الأشم وطوى العلم المنشور، وغابت الشمس المشرقة، وترجل الفارس المعلم، ومات الشيخ الغزالي في 9 مارس 1996″.
وأضاف القرضاوي: "أخيرا فقدت الأمة الإسلامية علم الأعلام، وشيخ الإسلام، وإمام البيان، ورجل القرآن.. مات الشيخ الغزالي وهو في قلب المعركة لم يلق السلاح، ولم يطو الشراع، بل ظلّ يصارع الأمواج ويواجه العواصف التي هبت من يمين وشمال على سفينة الإسلام".
واختتم القرضاوي رثاءه للشيخ الغزالي بقوله: "شيخنا الحبيب.. لا نجد كلمات في روعة بيانك، نودعك بها، كل ما نقوله لك: “إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول الا ما يرضي ربنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون".
أما المفكر د.محمد عمارة أحد المقربين من الشيخ الغزالي، فقد قال في تصريح صحفي، إن الشيخ الغزالي لم يكن مجرد عالم مجتهد ومجدد، ولا مجرد داعية حامل لهموم أمته، وإنما كان قلبا نورانيا عاش في سناه عارفوه الذين اقتربوا منه.
وأضاف د.عمارة أن الشيخ الغزالي كان له تعريف مميز للإسلام بأنه قلب تقي وعقل ذكي"، ولذلك كان من الذين عملوا على إنقاذ الثقافة الإسلامية من الفصاد النكد بين العقل والقلب.
واختتم د.عمارة مؤكدا أن الشيخ الغزالي كان واعيا بضرورة إصلاح الداخل الإسلامي والذات الإسلامية ، لزيادة المناعة ضد الزحف الغربي على المسلمين، مذكرا بمقولة الشيخ الغزالي: “الجهد الأول المطلوب هو تحريك قافلة الإسلام، التي توقفت في وقت تقدم فيه حتى عبيد البقر، وسوف تتلاشى هذه التحديات كلها يوم يعتنق المسلمون الإسلام ، ويدخلون فيه أفواجا حكاما وشعوبا".
أما المستشار طارق البشري نائب رئيس مجلس الدولة الأسبق، فقد وصف الشيخ الغزالي بأنه “أعظم مجددي الفكر الإسلامي في العصر الحديث، ومن بعده الشيخ يوسف القرضاوي".
وأخيرا فإن ذكرى رحيل الشيخ محمد الغزالي تعيد طرح تساؤلات كثيرة عن التجديد الحق في الفكر الاسلامي، ومن يحمل لواءه؟ ون يعيد الأمة العربية والاسلامية الى سابق مجدها وعزها وقوتها؟ أم أن هذه أمنية أصبحت عزيزة المنال في ظل ما تشهد البلاد الإسلامية من انقسام وتشرذم وانهزام؟ّ
من يقولها للسيسي اليوم؟
العلماء الربانيون يظهرون في الأوقات الصعبة وأحلك الظروف، فلم يتركوا ميدانا فيه نصره للدين أو انتصاراً للحق الا وكانوا اول من سارعوا به، الغزالى كانت له قصه قصيره رواها الدكتور محمد سليم العوا للشيخ مع المخلوع حسنى مبارك، بعد حادثة المحاولة الفاشلة لاغتيال مبارك بأديس أبابا سنة 1995 توجه وفد من كبار العلماء والمشايخ إلى القصر الجمهوري، وكان الوفد مكونا من الإمام الأكبر شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق و الشيخ محمد متولي الشعراوي و الشيخ محمد الغزالي.
وبعد اللقاء العلني الإعلامي والذي قال فيه الشيخ الشعراوي كلمته المشهورة لمبارك والمتداولة إعلاميا، بعد هذا اللقاء طلب مندوب من رئاسة الجمهورية من الشيخ الغزالي والشيخ الشعراوي والشيخ جاد الحق شيخ الأزهر الانتظار في غرفة بالقصر الجمهوري ودخل مبارك إليهم، وكان المكان الخالي على أريكة (كنبة) في ناحية فيها الشيخ محمد الغزالي، وجلس المخلوع في الناحية الأخرى منها.
وبعد مجاملات معتادة قال مبارك للشيخ الغزالي، وهو يربت على ركبته: ادع لي يا شيخ غزالي، أنا حملي ثقيل، أنا مطلوب مني كل يوم الصبح أوكل (أطعم) 70 مليون.. قال الشيخ الغزالي: لم أشعر بنفسي وهو يقول ذلك، واستعدته الكلام: انت بتقول إيه؟!
فكرر عبارته: أنا مطلوب مني كل يوم أوكل 70 مليون.
يقول الغزالي: فوجدت نفسي أنفجر فيه لأقول له: انت فاكر نفسك مين؟
إياك انت فاكر روحك ربُّنا! هو انت يا أخي تجدر (تقدر) توكل نفسك! يا شيخ اسكت..
انت يا أخي لو جت (جاءت) دبانة (ذبابة) على أكلك تأكله ولا تجدر (تقدر) تعمل فيها حاجه!
قال الشيخ الغزالي: فارتبك الرجل (الرئيس مبارك) وتغير لون وجهه، وقال لي: أنا قصدي من الكلام المسئولية التي عليّ.
قال الشيخ الغزالي: ولم أكن قد سمعته جيدا فأكملت: مسئولية إيه؟! المسئولية على اللي يجدر (يقدر) واحنا كلنا في إيد ربنا.. انت بكتيره.. بكتيره .. تدعي وتقول: يا رب ساعدني، لكن تقول: أوكلهم، وكِّل نفسك.
قال الشيخ الغزالي مكملا رواية الواقعة: فوضع الرجل يده على ركبتي مرة أخرى وقال: استنى يا شيخ محمد، استنى، انت يمكن مش فاهمني. فقال له الغزالي: مش مهم افهمك، المهم انت تفهمني، يا أخي {وفي السماء رزقكم وما توعدون} {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} {أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون}.
فسكت مبارك ونظرت إلى وجهه وهو متحير، فأدركت ما فعلت، وأفقت، فنظرت إلى الشيخين لعل أحدهما يعينني، فوجدت أكبرهما سنا (الشيخ محمد الشعراوي) قد أسند ذقنه على عصاه، وأغمض عينيه، ووجدت أكبرهما مقاما (الشيخ جاد الحق الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر) قد أسند رأسه إلى مقعده وأغمض عينيه تحت نظارته التي نصفها ملون ونصفها الآخر أبيض، وأكمل الرئيس كلامه بما يشبه الاعتذار عما قال، والرضا بما كنت أقوله، وجامل كلا من الشيخين بكلمة.
ثم قمنا لنخرج فأوصلنا إلى باب السيارة، فأسرع أحد الشيخين فجلس إلى جوار السائق، ودار الثاني ليركب من الباب خلف السائق، وكنت أنا أبطأهم خطوة، فمشى الرئيس إلى جواري حتى بلغنا باب السيارة فمددت يدي لأفتحه فإذا بمبارك يسبقني ليفتحه لي، فحاولت منعه من ذلك، وأمسكت بيده وقلت له: أرجوك يا سيادة الرئيس لا تفعل.
فقال: هذا مقامك يا شيخ محمد، أنا والله أحبك يا شيخ محمد، ادع لي.
ركبت السيارة وأغلق هو الباب، وبقي واقفا إلى أن تحركت السيارة فأشار إلي مودعا، وانطلقت السيارة والشيخان صامتان لم يتكلم أي منهما بكلمة حتى أوصلناهما واحدا بعد الآخر، ثم أوصلني السائق إلى بيتي.
وفي الليلة نفسها أو في صباح ثاني يوم هاتف الشيخ محمد الغزالي كل منهما على انفراد ليدعو له ويقول له: لقد قمت بفرض الكفاية عنا يا شيخ غزالي، ويضحك الشيخ ضحكة طويلة من ضحكاته الطفولية التي يعرفها محبوه، ثم قال: اسمع يا محمد (أي دكتور محمد سليم العوا) احفظ هذه الحكاية، ولا تحكها إلا بعد موتي، فإني أرجو أن يكون ما قلته لهذا الرجل في الميزان يوم القيامة، وأن يدعو لي بعض من يعرفونه دعوة تنفعني إذا فارقت الأهل والأحبة.