كتب رانيا قناوي:
قال الكاتب الصحفي وائل قنديل "إن محمد البلتاجي الذي شاهدته، منذ يومين، بابتسامة الواثق، وشموخ المنتصر، في قاعة المحكمة، منحنيًا لتقبيل يد والدته واحتضانها، بعد فراق 3 سنوات، ليس شخصًا، وإنما صار صفة إنسانية، تطلق على أي رجل محترم ونبيل ومخلص لما اعتقده وآمن به وتمثله في حياته"، موضحًا أن هناك نماذج من البشر تتحول مع الأيام إلى علامات في تاريخ الإنسانية، فيتحول اسم الموصوف إلى صفة، ومن هؤلاء محمد البلتاجي، والد أسماء، الشهيدة، وخالد، الطفل المعتقل، وأنس، الفتى الذي يقضي شبابه اليانع داخل الزنزانة".
وأشار قنديل -خلال مقاله بصحيفة "العربي الجديد" اليوم الخميس- إلى أن العرب قديماً حين يتباهون بأحد منهم يقولون هذا رجل "فهّامة" أو "علّامة"، والآن يمكن أن تضاف صفة إنسانية جديدة فيقال "هذا رجل بلتاجي" علامة على الاحترام والنبل والصمود، موضحا أنه في الفترة السابقة على ثورة يناير 2011، لم يكن محمد البلتاجي بالنسبة لي سوى ذلك النائب البرلماني، الإخواني، الشاب، الطبيب الذي يجيد اللغة العربية السليمة، كإجادته للطب، وفي السياسة يحترم مبدأيتها، كأنه سقراط، كما يحترم مهنة الطبيب كأنه أبقراط.
وكشف أنه لم يلتق البلتاجي إلا في أيام يناير الخالدة، إذ كان لا يغادر ميدان التحرير، خطيباً ثورياً، بارعاً وصادقاً، فوق المنصات، بالنهار، وحين يأتي الليل تراه محاطاً بمجموعة من الشباب يزرعون الميدان حركة واثقة، يطمئن على الإعاشة وتأمين المداخل والمخارج، يوزع المياه والطعام، كما ينثر ابتسامة الأمل والثقة بالانتصار على كل من يصافحهم، قائلا: "لا أنكر أنني كنت أحياناً أضبط نفسي متلبساً بالانزعاج من هذا الانتشار الإخواني الواسع بالميدان، والذي يجسده البلتاجي، وقد حدثتني نفسي وقتها، إن الإخوان يحاولون الظهور وكأنهم مديرو ميدان الثورة، إذ كان حضور البلتاجي طاغياً، ولافتاً، بما يكفي لتأكيد هذا الانطباع، حتى جاءت موقعة الجمل، معركة فاصلة، تكون معها الثورة، أو لا تكون، ووجدنا البلتاجي وشباب الإخوان يشكلون الدرع الواقي للميدان من هجمات تتار الفلول والثورة المضادة، فشعرت بالخجل والغضب من نفسي التي كانت تحدثني قبل أيام، إن إخوان البلتاجي يستعرضون قوتهم بالميدان".
ونوه إلى ما قبل الثورة بثلاثة أسابيع، حيث كانت الصورة الخالدة للبلتاجي، في مسيرة الوحدة الوطنية بحي شبرا بالقاهرة، وهو يتأبط ذراع الناصري المسيحي، أمين اسكندر، في تظاهرة شعبية عارمة عقب تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، كتبت وقتها "الصورة التي تحتاجها مصر" وقد تحققت مع ثورة يناير، وأضاءت ميادينها كلهان وبعد الثورة كانت لي مع البلتاجي لقاءات ومصافحات عابرة في ندوات سياسية أو مؤتمرات، ثم رأيته بازغاً في أحداث محمد محمود، مع الثوار ووسطهم وحولهم، ومعه أولاده، ثم تكثفت لقاءاتنا وتعمقت الصداقة مع تشكيل الجبهة الوطنية، بعد انتهاء التصويت في جولة الإعادة بالانتخابات الرئاسية، وفي كل اللقاءات. والاجتماعات لم تغيّب عن البلتاجي براءته الثورية، وانحيازه المطلق للميدان، قيماً ومبادئ وأفكاراً وأخلاقاً، لم يدخر وسعاً في الكفاح من أجل تحقيق أهداف الثورة، حتى وإن اصطدم ذلك مع خيارات الحزب، والجماعة، اللذين ينتمي إليهما.
وكشف أنه في ليلة الثامن والعشرين من يونيه 2013 قبل الانقلاب بيومين فقط، جاءه صوت محمد البلتاجي، عبر الهاتف، مهموماً وحزيناً، وقلقاً على البلد والثورة.. ورموز الثورة يخلعون قمصانهم ويلبسونها للفلول وأعداء الثورة، فتتحول الأيقونات إلى خوادم في فضاء الثورة المضادة، من دون خجل أو وجل، "غير أنني ظهر ذلك اليوم تخففت من الإحباط والكآبة، بعض الشيء، بعد اتصال مع ثائر نبيل آخر، في عتمة الزنزانة الآن، حاول طمأنتي أن قال، إن مؤسسات الدولة الرئيسية تقف مع الشرعية، وإنه ليس هناك ما يدعو للخوف من 30 يونيه. حاولت أن أنقل هذه المسحة من التفاؤل إلى الدكتور محمد البلتاجي، غير أنه قال بأسى: انتهى الأمر يا صديقي.. الانقلاب في الشارع الآن(قبل موعد 30 يونيه بثمان وأربعين ساعة" وما سيأتي لاحقاً ليس إلا تحصيل حاصل.. "قضيٓ الأمر".
واختتم قنديل مقاله قائلا: "هذا هو"البلتاجي" الرائع الذي مارس السياسة بضمير الطبيب وعقل الفيلسوف ووجدان الشاعر المحب. سلام عليك في زنزانة تستضيء بك.. سلام عليك من الميدان، وقبلة على جبينك من ثورة احتضنتها، كما احتضنت والدتك".