موقف الإخوان المسلمين من انقلاب 1952 (2/2)

- ‎فيمقالات

تناولنا فى المقال السابق دور الإخوان المسلمين فى نجاح ثورة 1952، ثم عرضنا لتطورات العلاقة بين عبد الناصر وقادة الجماعة وكيف أنه نفض يده من العهود والمواثيق التى قطعها على نفسه، وكيف تلقى الإمام الهضيبى، مرشد الجماعة، هذا النكوص من قبل جمال، وماذا كان رأيه فى هذه الشخصية. وفى هذا المقال الذى نختم به الموضوع نستعرض تطورات العلاقة بين الجانبين والتى وصلت إلى طريق مسدود ثم كيد وانتقام، ومحنة تعرضت لها الجماعة؛ هى الأشد منذ إنشائها…

لقد تقدم الإخوان للحكومة الجديدة بنصائح كثيرة ومذكرات شتى حول قانون الإصلاح الزراعى، واتفاقية تأميم القناة، وما يتصل بالأخلاق وتدهورها فى مثل «حفلات الأندلس» التى كانت تقام للفاحشة فى شهر رمضان المعظم بحديقة الأندلس بالقاهرة ومثلها بالأقاليم؛ فكان جمال يبذل الوعود تارة ثم يخلفها، وتارة أخرى يغلظ للإخوان القول ويعلن رفضه وصاية أحد على الثورة.
وفى 17 من يناير 1953م، أصدر عبد الناصر قرارًا بحل جميع الأحزاب السياسية، عدا جماعة الإخوان المسلمين التى كانت جمعية ولم تكن حزبًا.. ورغم أن القرار يبدو فى ظاهره فى صالح الإخوان، فإن الأستاذ الهضيبى لم يستبشر خيرًا، وعلم أن الدور على الإخوان؛ حيث أراد عبد الناصر أن ينتهى من الأحزاب أولًا، ثم يتفرغ للجماعة بعد ذلك، وهو يعلم حجمهم وقوتهم التى ربما استعصت عليه قبل حل باقى الأحزاب. ولقد كانت هناك محاولات من قِبل عبد الناصر سبقت هذا القرار بنحو أربعة أشهر لتسجيل الجماعة كحزب سياسى كى يحلها فى الوقت الذى يريده؛ وكى ينطبق عليها ما ينطبق على باقى الأحزاب، إلا أن الإمام الهضيبى كان يقظًا لهذه المؤامرة، بعدما علم –بفراسته- نيته السيئة تجاه الجماعة.

ولم يمض أسبوع واحد على قرار حل الأحزاب، الذى نجا منه الإخوان، حتى تم الإعلان الرسمى من جانب قادة الانقلاب عن قيام (هيئة التحرير)، التى كانت من بنات أفكار عبد الناصر لإغراء بعض قادة الإخوان بالانضمام إليها وترك الجماعة. وقد حشدوا لها جميع الإمكانات وسلطات الدولة، بدليل أنه فى أقل من ستة أشهر كانت مقار الهيئة وشُعبها قد غطت جميع أنحاء القطر، وانضم إليها أعداد تفوق أعداد الإخوان التى أنشئت منذ ما يزيد على عشرين عامًا. وقــد أحــسّ الإخــوان بــأن هـذه الهيئة لــيــست إلا مــســجــد ضرار أراد عبد الناصر أن يخدع الناس بها.

ولما فشلت حيلة عبد الناصر فى ضم الإخوان إلى هيئة التحرير أو جر عدد من دعاتهم إليها، ولم يعد عنده أمل فى إثارة هذا الموضوع مرة أخرى، فكر فى حيلة جديدة، وهى إظهار الود لعموم الإخوان وقواعد الجماعة، وإظهار رجال الثورة وخصوصًا عبد الناصر كأنهم أبناء الجماعة وحاملو أفكارها ومبادئها، وكان الهدف الأساس من هذا الطريق تأليب الأعضاء على المرشد الذى صار غصة فى حلقه. ولهذا فإنه فى يوم 12 من فبراير 1953م زار أعضاء مجلس قيادة الثورة قبر الإمام الشهيد حسن البنا، فى ذكرى استشهاده، وكان فى استقبالهم عند القبر جمعٌ غفيرٌ من الإخوان على رأسهم الهضيبى، كما حضروا حفل الإخوان بالمولد النبوى فى المركز العام بالحلمية.

ويُعَدُّ عام 1954م، هو بداية مناوشة عبد الناصر للجماعة. بدا ذلك واضحًا أثناء زيارته للحوامدية حيث هاجم الإخوان لأول مرة، وفى البحيرة عندما صفع وحيد رمضان أحد الإخوان.. وقد توالت التحرشات على نحو ينذر بالسوء. ففى3 من يناير 1954م وبينما كان طلاب الإخوان يحتفلون فى جامعة القاهرة بذكرى شهدائهم فى معركة التل الكبير، وقع عليهم هجوم مصحوب بإطلاق نار من جانب رجال المباحث وأعضاء هيئة التحرير الموالية لعبد الناصر. ولولا أن الإخوان كانوا على علم بالمؤامرة وكانوا مستعدين لها لسالت الدماء بغزارة.

وفى12 من يناير 1954م، أصدر مجلس قيادة الثورة قرارًا بحل الإخوان. وفى يوم 15 من الشهر نفسه نشرت الصحف بيانًا آخر يتهم الإخوان باتصالهم بالإنجليز، وإقامة منظمات سرية فى الجيش والبوليس، ومحاولة قلب نظام الحكم. وقد قام عبد الناصر باعتقال الإخوان على مدار شهرين؛ حيث تم تجميعهم فى السجن الحربى، ثم ترحيلهم إلى معتقل العامرية، وقد قضى الإخوان ما يقرب من شهرين فى هذا المعتقل القريب من الإسكندرية. وفى 28 من فبراير 1954م، نظم الإخوان مظاهرات حاشدة للاحتفال بعودة محمد نجيب، الذى تم قبول استقالته فى الشهر ذاته، أصيب فيها عشرات المواطنين الذين حملهم المتظاهرون وتوجهوا بهم إلى قصر عابدين؛ حيث خرج إليهم محمد نجيب، إلا أنه لم يتمكن من صرفهم، فدعا عبد القادر عودة لفض المتظاهرين، وقد كان؛ إذ بإشارة منه انصرف الجميع فى هدوء عجيب، وقد اختزن له عبد الناصر هذا الموقف، ودبر شنقه فى قضايا عام 1954م.
ومع بداية شهر أغسطس 1954م بدأ فى اعتقال شباب الإخوان، وتعذيبهم ونشر الأكاذيب عنهم فى الصحف، وقام بتشتيت المئات من الموظفين المنتمين للجماعة، وقد توقع الإخوان بعدها شرًا لا يدرون متى ولا أين ولا كيف سيقع.. ثم لما عاد الهضيبى من رحلته إلى بلاد الشام بدأ فى التخطيط لاغتياله، وهو ما دفع الإخوان لإخفائه فى أحد المنازل بالإسكندرية. وفى هذا البيت ظل الهضيبى مقيمًا حتى قُبض عليه فيه بعد شهر ونصف الشهر (صباح السبت 30 أكتوبر).

وفى 23 من سبتمبر 1954م، عُقد الاجتماع الأخير للهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين، قبل تطور الأحداث ودخول الجماعة نفق الابتلاءات، والذى استمر حتى موت عبد الناصر وتولى السادات أمور الحكم. رأس الاجتماع الدكتور خميس حميدة نائب المرشد العام، الذى بذل محاولات كبيرة لإصدار توصيات تدعو للتهدئة بين الإخوان من ناحية والحكومة من ناحية أخرى، فكان من التوصيات التى صدرت عن الاجتماع: «إن على مجلس قيادة الثورة وجماعة الإخوان المسلمين أن يعملا معًا من أجل ما فيه خير العقيدة والأمة». إلا أنه بعد إرجاء الاجتماع للاستراحة خرجت الهيئة بتوصيات أخرى أعلنها عبد القادر عودة، من بينها: «انتخاب مرشد عام الجماعة مدى الحياة»، وهو ما جعل عبد الناصر ناقمًا على الإخوان أشد النقمة؛ إذ إن التوصية الأخيرة تعنى استمرار الهضيبى مرشدًا عامًا للجماعة، وهو ما لا يحبه عبد الناصر ولا يرضاه.

فى 26 من أكتوبر 1954م اخترع عبد الناصر حادث المنشية، لفق الحادث للإخوان؛ ليكون سببًا فى ارتكاب أكبر مذبحة فى تاريخ مصر ضد الحريات وحقوق الإنسان. لقد تم القبض على كل من ينتمى للجماعة، تم إعدام ستة منهم هم: عبد القادر عودة، الشيخ محمد فرغلى، يوسف طلعت، إبراهيم الطيب، هنداوى دوير، محمود عبد اللطيف. أما من بقى معتقلا فقد رأى الموت بعينيه، من هول التعذيب، من بشر ليسوا بالبشر، بل هم شياطين فى صورة بشر. لقد تفننوا فى (سلخ) المقبوض عليهم، دون موتهم، حتى صار الموت بالنسبة لهم أرحم بكثير مما يعانونه فى هذا الجحيم المسمى (السجن الحربى).