مستقبل الإسلام السياسى

- ‎فيمقالات

تصريح لافت لمتحدث البيت الأبيض «شون سباسير» يوم 12 أكتوبر الجارى، تناول فيه «مستقبل الإسلام السياسى». ومما أكده «سباسير»؛ ضرورة مراجعة الموقف الغربى من الإسلام السياسى، والبحث عن إمكانية التصالح والتعايش معه. كما دعا إلى الاعتراف بالحضور القوى لهذا التيار. (كان هذا بعد أن تصدرت حركة النهضة التونسية نتائج الانتخابات التشريعية بحصولها على المركز الأول بـ 52 مقعدًا).

ولم تقف تصريحات «سباسير» -غير المتوقعة- عند هذا الحد، إنما أكد أيضًا أن حركات الإسلام السياسى هى الأقوى فى الساحة العربية والإسلامية، وأنها تتمتع بقبول وسند كبيرين، وأن التمادى فى محاربتها صار أمرًا غير ذى جدوى؛ حيث أثبتت التجربة واستطلاعات الرأى العام –حسب قوله- أن نتائج أى انتخابات نزيهة ستكون من نصيب الإسلاميين.

وذهب «سباسير» إلى مدى أوسع؛ مؤكدًا أن مستقبل العديد من دول الشرق الأوسط سيكون بيد الإسلاميين؛ خاصة فى دول المغرب العربى ومصر والسودان وتركيا ودول جنوب شرق آسيا، وأن محاولات دول الخليج للتخلص من «الإسلام السياسى» لن تجدى نفعًا، متوقعًا فى حال حدوث أى تطور فى اتجاه حقوق الإنسان والديمقراطية أو انفجار داخلى؛ فإن الخليج سيقع فى قبضة الإسلاميين بلا منازع.

وقال أيضًا: إن الولايات المتحدة ستراجع موقفها من «ظاهرة الإسلام السياسى» -الذى وصفه بالمعتدل- وربما وجدت فيه البديل الأفيد للمحافظة على الأمن والسلم الدوليين.

والحقيقة أن كلام «سباسير» واقعىٌ وصريحٌ، وربما كان مقدمة لسياسة أمريكية جديدة تخالف اختياراتها الاعتيادية خصوصًا فى منطقتنا المنكوبة، وقد ألمح إلى هذه السياسة منذ أيام «ترامب» نفسه؛ إذ اعترف -لأول مرة- بأخطاء ارتكبتها الولايات المتحدة حيال بعض الدول والشعوب لمّا أطلقت جيوشها بدون مبرر هنا وهناك. 

وإذا كنا على ثقة بأن العداوة بين الدول لا تنقلب إلى ودٍّ ومحبة بين عشية وضحاها، وأننا لن نسْلم من شرور الأمريكان بعد هذه التصريحات -فإننا نؤكد أن هذه التصريحات لها قيمتها ومآلاتها المهمة فى عالم السياسة والعلاقات الدولية فيما بعد.

منذ عقود والعالم كله على قلب رجل واحد لحرب ما أسموه «الإسلام السياسى»؛ إذ بمجرد أن أعلن مؤسس جماعة الإخوان المسلمين «حسن البنا» خوض معترك السياسة (عام 1941) بالترشح لخوض انتخابات «مجلس الأمة» والحرب منعقدة لم تنته، بل تزداد شراسة يومًا بعد يوم، حكومات وإمبراطوريات، وعروش وجيوش فى مواجهة جماعات لا تملك سوى الأفكار والطموح إلى إصلاح بلدانها والنهوض بها بعد سنين من الاحتلال والمعاناة، أما بداية الحرب فكانت تجريد تلك الجماعات من أى شرعية، بعدما ادعوا أن الإسلام برىء من السياسة -وهذا كذب-؛ فإن السياسة والحكم فرع من التشريع، ثم اتهموا هذه الجماعات لاحقًا بالشغب على حكامها والخروج على الشرعية -وهذا كذب ثان؛ إذ لم يكن لهؤلاء الحكام يومًا أى شرعية، ثم مؤخرًا اتهموهم بالتطرف والإرهاب -وهذه كذبة ثالثة؛ فإن الدول التى تحاربهم والعروش التى تلاحقهم هى منبع التطرف وأس الإرهاب.

إذًا تصريحات الرجل هى تحريٌر للفظ «الإسلام السياسى»، ووضعٌ للنقاط على الحروف، ولطمةٌ على وجه وكلاء الغرب فى بلادنا، الملوك والرؤساء، بعد تخلى القطب الأكبر عنهم، وقد عرّاهم وكشف دجلهم واستخفافهم بشعوبهم، وهذا يكشف مدى عمالة أولئك الرؤساء والملوك الذين ما فتئوا يصبون ألوان العذاب على مواطنيهم المصلحين، وقد تفرغوا لتلك الحرب، ووجهوا لها جلَّ اهتمامهم حتى صارت بلدانهم أفقر البلدان، ومواطنيهم أبأس المواطنين.

لقد كان لتجارب الأمريكان مع المسلمين ومواجهتهم، الفضل في الوصول إلى تلك الحقائق التى لا ينكرها إلا معاند؛ فالإسلام دين متجذر وعقيدة راسخة فى نفوس المسلمين، من المستحيل أن يحل محلها مذهب أرضى  آخر، ولو حصل انصراف عنها فهو ظاهرى مؤقت فرضته الظروف. لقد حصل حزب «نداء تونس» العلمانى على مقعد واحد فى الانتخابات الأخيرة، ولم يحصل الحزب الشيوعى على شىء، والحزبان تصدرا الثورة التونسية إعلاميًّا وسياسيًّا، لكن -فى الواقع- لم يخترهم الشعب التونسى الذى زايد البعض عليه مدعيًّا فرنسته مرة وعلمانيته مرة أخرى، وها هو ذا يضرب المثل بسلامة الشعوب الإسلامية، وتمسكها بثوابتها رغم الإحن التى مرت بها، وحنينها إلى الماضى الأول للآباء والأجداد.

هنالك حالة مستمرة من «الفوران الشعبى» الرافض لإملاءات وسياسات حكامنا «الأشاوش!»، وهذا الفوران لا تقوم به جماعات بعينها أو أحزاب سياسية معروفة، إنما هو تململ شعبى عام من الواقع المفروض على تلك الشعوب، ومن السياسة القائمة على التبعية والفساد، ولن تهدأ ثائرة تلك الشعوب إلا عندما تسترد حقها فى حكم نفسها بنفسها، وفى استبدال منهجها القويم المستمد من كتاب رب العالمين، بتلك المناهج المعوجة التى قسّمت الشعوب، وزرعت الحواجز والحدود، وجعلت الجيوش الوطنية مطية للغرب فى مواجهة شعوبها المسالمة.

الناس يبغون الإسلام وحكم الإسلام، ولا يبغون مذاهب أرضية أخرى، والربيع العربى الذى لم يهدأ إلى الآن أمارة على ذلك، وعدم استتباب الأمر لحاكم عربى واحد أمارة ثانية؛ من أجل ذلك يحكمون بالاستبداد، وبالحديد والنار، ويكذبون، ويهرفون بما لا يعرفون، ويتطلعون يمنة ويسرة لعل أحدًا  يشير عليهم بطريقة ناجعة لترويض هذه الشعوب الثائرة، ولا جدوى من كل هذا إلا أن يعترف هؤلاء المستبدون بصواب رأى الشعوب وفساد وطيش رأيهم.