محمد علي .. عليه اللعنة

- ‎فيمقالات

إن لم يفعل محمد علي سوى تحطيم الصنم المقدس للمنتفعين من الطغيان والفساد، فهذا يكفي ليدخل التاريخ، فما بالك وقد فعل ما هو أهم: إسقاط الطاغية الأكبر من عبد الفتاح السيسي، وهو الخوف. ومن هنا تأتي حالة الهلع الهستيري التي تنتاب بطانته من الإعلاميين والسياسيين هذه الأيام، وهم يرون مجموعات من الشعب المصري تستعيد ذاكرة الغضب، وتسترد القدرة على الهتاف: الشعب يريد.

هم مرعوبون، لأن الخرافة سقطت، والتعويذة فقدت مفعولها، والشعب الذي تصوّروا أنهم سجنوه في قمقم الأوهام حطّمه وخرج، وكما دونت، قبل نحو عامين، إنه كما كان يفعل اليابانيون القدماء بوضع أقدام البنات في أحذية حديدية كي لا تنمو، فقد فعلت منظومة عبد الفتاح السيسي الأمر ذاته مع المصريين، بوضع عقولهم وقلوبهم في أحذية الخرافة الثقيلة، وربطها في سلاسل غليظة كي لا تتسع الرؤية وينمو التفكير والفهم، فيضمنون السيطرة عليه بحواديت أهل الشر وحكايات الغول الخارجي الذي سينقضّ عليهم ويأكلهم لو خرجوا من ربقة الأساطير، وهذا الغول كان قناة الجزيرة والقنوات ذات الخطاب المضاد للهلوسة الإعلامية داخل البلاد.. الآن صار الغول هو “بي بي سي” و”نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست”، وكل صحيفة أو قناة تقدّم رواية أخرى عن الحالة المصرية تخالف منتجات الأكاذيب والتخاريف التي تغرق بها ماكينة الاستبداد الإعلامية المواطن المصري.

لا يريدون تصديق أن الصورة الكرتونية للزعيم الفوتوشوب قد أسقطت، وديست بالأحذية، واشتعلت بها النيران، بفعل هذا المقاول الرجيم، المتمرّد على نعيم فسادهم، وهي الصورة التي أنفقوا مليارات الدولارات، وأراقوا أنهارًا من الدماء على تصنيعها.

قل ما تشاء عن المقاول الممثل، هو أيضًا يعترف، ويقول عن نفسه إنه عاش في كنف الفساد المحميّ بالطغيان سنوات، لكنك لا تملك إلا أن تعترف بأنه أعاد الخضرة إلى أشجار الغضب اليابسة، وأسقط المطر، حتى لو كان اصطناعيًا، على تربةٍ ميتة، وفعل المقاول ما عجز عن الاقتراب منه السياسيون، ليقف العالم مندهشًا أمام ظاهرة “المقاول المسيس” بديلًا عن “السياسي المقاول” الذي يصر على التعاطي مع ظاهرة محمد علي بكثير من الاستعلاء والاستنكاف.

فليكن وراء محمد علي من يكون، لكن الواقع ينطق بأنك أمام فرصةٍ عظيمة لاسترجاع الشارع طرفًا في معادلة السياسة، بعد أن ظنّت منظومة الفساد الطاغي والطغيان الفاسد أن الشعب مات، ولم يعد ثمّة غضب أو خطر يتوقع منه.

قل، أيضًا، ما تشاء عن لغة محمد علي وأسلوبه المفرط في الشعبوية، وتوصيفاتها للجنرال الذي لا يمسّ، لكنك ستدهش من وجود مثل هذه المفردات والأوصاف في أشهر أدبيات الصراع السياسي والتأريخ للثورات والانقلابات، كما فعل كارل ماركس في كتابه “الثامن عشر من بريميير”، وهو يتحدث عن بونابرت الصغير الذي اختطف الثورة الفرنسية وانقلب عليها، وقد دوّنت ذلك في العام 2014 تحت عنوان “قداسة المشير عبد الفتاح بونابرت”.

يصف ماركس الطاغية الصغير بأنه “ذلك المغامر الذي كان يخبئ ملامحه التافهة المنفّرة تحت القناع الحديدي لنابوليون الميّت، ومع ما هو عليه من قلة البطولة، اقتضى إخراجه إلى حيز الوجود بطولة وتضحية وإرهاباً، واقتضى حرباً أهلية ومعارك بين الشعوب”.

ومبكرًا، وفي أجواء تنتمي بالكلية إلى عالم الشعوذة والسحر، قلت إن مصر تتحوّل تدريجياً إلى “دولة فوتوشوب”، مجرّد تكوينٍ فوق رمال ناعمة على شاطئ بحرٍ صاخب، مع أول موجةٍ تنهار الأكاذيب والأوهام، ليرفع الستار عن زعامةٍ كرتونيةٍ مصنوعةٍ في ورش إعلام بلغ من العبط عتياً، يحاول أن يعتصر من حكايات السابقيْن، عبد الناصر والسادات، ما يكفي لرسم صورة “جنرال معاصر كبير”.

كل ما فعله المقاول أنه حطّم الصنم المقدّس، فاستحق اللعنة.