متى تغسل مصر يدها؟

- ‎فيمقالات

وضعت صحيفة من صحف عبد الفتاح السيسي عنوانًا في قلب العاصفة يقول: “وجّه كلمة للحكومة بعد نجاحها في مواجهة سوء الأحوال الجوية”، بينما كانت فيضانات تهاجم السكان في البيوت، ومياه مكهربة تحصد أرواح الناس في الطرق.
بعد أن هدأت العاصفة، خرج السيسي يهنئ الحكومة ويشكرها على أدائها، فيما كانت الإحصاءات تشير إلى نحو 30 شهيدًا ماتوا تحت المطر. .. ليس في ذلك أية مفاجأة، فهذا نظامٌ بليد يعيش حالة من الإنكار والكذب، منذ استولى على السلطة، بكذبة كبيرة، تجعله يرى فشله منتهى النجاح، ووحشيته قمة الإنسانية.. حدث هذا في ملف الأمطار، كما في أزمة فيروس كورونا، إذ بقى النظام أسابيع يكذب على الشعب وعلى العالم، مُنكرًا وصول الوباء إلي مصر، رافضًا اتخاذ أية إجراءات احترازية من التي طبقت في مختلف الدول، مصرّا على روايته الكذوب: مصر ليست مقرًا أو ممرًا لكورونا، بينما كان المجتمع يمور بالرعب والذعر من مصيبةٍ مسكوت عنها.
فجأة، يخرج الجنرال على الناس بالقرار الذي حارب نظامه كله ضد صدوره، وهو تعليق الدراسة وإغلاق الفصول مؤقتًا، على اعتبار أن خطوة كهذه تسيء لسمعة مصر وتؤثر سلبًا على اقتصادها وسياحتها.
من حق الناس أن تعرف الحقيقة، لماذا تغيّر الخطاب فجأة من منتهى التهوين إلى قمة التهويل؟ ومن الذي كان يكذب ويروج شائعات، نظام سياسي يقسم بأنه لا كورونا ولا أخطار ولا داعي للقلق؟ أم سيدات فضليات دفعهن قحط المعلومة إلى تداول الرسائل عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، لمتابعة التطورات والاطمئنان؟
الحقيقة أن أداء السلطة في كل هذا المراحل جاء مهينًا لكل القيم الوطنية والإنسانية، ولم يجد في الأزمة إلا فرصةً لفرض مزيد من القمع والاستبداد، غير أن نفرًا من نجوم المعارضة اللطيفة وجدوها في قرار جنرال سلطة الانقلاب بتعليق الدراسة مناسبة للإشادة بالحكمة والإجادة في الأداء، حتى ظننت أن أحدهم سيدعو الشلة إلى إصدار بيان تأييد ومبايعة للخطوة المباركة، أو المباركية، من حيث الفكرة والتنفيذ جريًا على الطريقة التقليدية: دع الأزمة تكبر وانفخ في الحريق حتى يزيد، حتى يظهر الرئيس القائد ويخمد كل شيء بزفرةٍ واحدة، فتهتف الجماهير وتصفق النخب العطشى للتصفيق.
كان من الممكن احترام ذلك واعتباره إعلاء لمقتضيات الموضوعية والنزاهة، لو أنه كان هناك أداء حقيقي أو إدارة محترمة للأزمة، وللمرة الألف، فإن الخلاف مع هذه السلطة ليس على الأداء، ومن ثم لا يستطيع منصفٌ أن يقول عن أداء جيد أنه فشل، ولا يغير من نظرتنا إليه شيئًا أن يحقق هذا النظام إنجازًا علميًا أو اقتصاديًا أو طبيًا يعود بالفائدة على المصريين، ذلك أن الخلاف ليس حول الأداء، وإنما يتعلق بدماء سفكها هذا النظام أنهارًا في سبيل استكمال جريمته في اغتصاب السلطة بالقوة المسلحة.
وعلى ذلك، لم يكن يضيرنا شيءٌ لو أن تفريعة قناة السويس كانت مشروعًا ناجحًا، وليست عملية نصب لحقن الوعي الجمعي بمادة مخدّرة تجعله يصدّق أكاذيب من نوعية أن عائد بيع الأتربة والرمال التي نتجت عن الحفر قد يساوي كل تكاليف إنشاء المشروع، أو أن المشروع سيدر مائة مليار دولار ربحًا، أو أن أرباح المواطنين من عوائد استثمار مدّخرات عمرهم في “قناة السويس الجديدة”، أو هكذا وصفوا التفريعة، ستكون أكبر من الاستثمار في البنوك.
كنا نتمنّى أن يكون ذلك كله صحيحًا، وليس أكاذيب لرفع الروح المعنوية للشعب. كذلك كان لدينا من الشجاعة والموضوعية أن نشارك جموع الشعب فرحتها باختراع “الكفتة” لعلاج الإيدز والفيروسات على يد ذلك المسكين الذي جاءوا به من كهف مظلم، وصنعوا له زفّة إعلامية، بوصفه اللواء العسكري الذي قضى على مشكلات مصر والعالم مع الفيروسات القاتلة.
وبهذا القياس، نمتلك من الشجاعة والموضوعية ما كان يتيح لنا أن نشيد بمستوى أداء هذه السلطة، الانقلابية المولودة سفاحًا على فراش جريمةٍ سياسية، لو أنها نجحت فعلًا في حماية الشعب من خطر ما أسمته “إعصار التنين”، أو اتخذت من الإجراءات ما يحول دون مقتل العشرات تحت المطر.. لكنها لم تفعل من ذلك شيئًا، واعتبرت أن قراءتها حالة الطقس، المتاحة على أجهزة الهاتف المحمول، وتحذيرها منها في اليوم الموعود، قمة النجاح والإجادة التي تستحق الثناء والإشادة.
من هنا، لا أفهم بأي معيار تشارك معارضة ترى في نفسها نقيضًا للسلطة، في زفّة الشكر والتقدير، إلا إذا كان ذلك نوعًا من الانحناء أمام عاصفةٍ مبتذلةٍ من المشاعر الوطنية الفاسدة، ترى في كل نقد أو اعتراض على الهلوسة القومية دليل اتهام بانعدام الوطنية والانتماء يقولون إن خط الدفاع الأول ضد كورونا هو غسل الأيدي، والاحتفاظ بها نظيفة باستمرار. وأظن أن الأوْلى بهذه النصيحة هي مصر التي لا يزال على يد السلطة الحاكمة فيها، وعلى يد بعض نخبتها الانتهازية كذلك، دم كثير لن يفلح عملٌ ولن يثمر زرعٌ قبل أن يغتسل منه الجميع.
إن واحدًا على الألف من هذه الأحاسيس الإنسانية المرهفة التي تنضح منكم الآن ذعرًا من كورونا، كان من الممكن أن يعفي البشرية من كوارث وفواجع مثل ما جرى في رابعة العدوية والغوطة وحلب وغزة والأويغور وبورما وسريلانكا.. لكنكم كاذبون ودمويون.
نقلا عن “العربي الجديد”