الثورة المصرية على خطى الجزائر والسودان

- ‎فيمقالات
بين التفاؤل والإحباط تفاوتت رؤى المصريين تجاه الجمعة الثانية من حراكهم الجديد الذي بدأ يوم 20 أيلول/ سبتمبر الجاري، كثيرون كانوا قد خرجوا لتوهم من حالة إحباط طويلة على مدى السنوات الثلاث أو حتى الخمس الماضية، ثم عاشوا لحظات تفاؤل عالية بعد مظاهرات الجمعة قبل الماضية (20 سبتمبر) التي دعا لها الفنان والمقاول محمد علي، ولاقت استجابة جيدة، ووصلت إلى مياديين الثورة الرئيسية في القاهرة والمحافظات الكبرى، ثم أصيب بعضهم بنوبة إحباط مجددا إثر تراجع الحراك في الجمعة التالية عن مستواه السابق، بل عن مستوى توقعات الكثيرين التي وصلت إلى حد اعتبار هذه الجمعة هي جمعة الخلاص كما هو اسمها.

لم تكن هذه هي حال كل من شارك أو راقب الموقف، فهناك من رأى أن الجمعة الثانية من الحراك كانت جيدة أيضا وفي حدها الأدنى معقولة، في ظل حالة التضييق الأمني الواسع التي أغلقت منطقة وسط القاهرة وكل الطرق المؤدية إليها، وأغلقت محطات المترو الرئيسية، ووضعت حركة السفر بين القاهرة والأقاليم تحت رقابة مشددة، كما انتشر رجال الشرطة أمام كل المساجد الرئيسية والفرعية، وفي كل الأماكن التي توقعوا خروج مظاهرات فيها، وقاموا بالفعل بمطاردة المواطنين والقبض عليهم (عدد المعتقلين بين ألفين وثلاثة آلاف على ذمة الحراك الأخير بجمعتيه).

تميزت الجمعة الثانية للحراك الثوري في مصر بتركزها في الصعيد الذي غاب عن ثورة يناير، وأراد أن يعوض ذلك الغياب في الموجة الجديدة للثورة، وتميزت بوصولها إلى القرى، وهو مالم يحدث من قبل، كما تميزت باستمرار حالتها الشعبية غير المسيسة، وهو ما ظهر جليا في أمرين؛ أولا حيرة الكثيرين الذين نزلوا من بيوتهم فعلا للتظاهر ولكنهم فوجئوا بالصد الأمني، فلم يستطيعوا تنظيم أنفسهم بطريقة تتفادى القبضة الأمنية بسبب عدم خبرتهم، والأمر الثاني هو أن النسبة الغالبة من المعتقلين تنتمي لفئات شعبية بسيطة لم تكمل تعليمها، وتعمل بوظائف في أسفل السلم الوظيفي، وبالمناسبة هذا الأمر أربك السلطات بشكل كبير لأنها هي الأخرى لديها خبرات في التعامل مع المسيسين، لكنها تواجه أزمة في التعامل مع هؤلاء المهمشين ولا تعرف أولهم ولا آخرهم.

في الجمعة الثانية تبددت إلى حد كبير فكرة وجود جناح داخل السلطة جاهز للانقلاب على النظام الحالي، لكنه كان بحاجة إلى غطاء شعبي، ومعها تبددت فكرة التغيير السربع الذي حلم به الكثيرون بناء على ذاك الانطباع، وحل بديلا لذلك فكرة الثورة المرحلية المتدرجة على غرار الثورتين السودانية التي انطلقت في 19كانون الأول/ديسمبر 2018 لتنتصر في 11 نيسان/إبريل 2019 بخلع البشير، والثورة الجزائرية التي انطلقت في 22 شباط/فبراير 2019 ولم تتوقف حتى الآن عبر مظاهرات كل جمعة، ومن الواضح أن هذا السمت هو ما يميز الموجة الثانية من الربيع العربي عموما.

لقد كانت الموجة الأولى خاطفة وحققت نتائج سريعة في تونس ومصر وليبيا، وكادت أن تفعل الشيء ذاته في سوريا، لولا تدخلات خارجية أنقذت الأسد الذي كان قد أوشك على السقوط، ولكن الثورات التي حققت هذه النتائج الخاطفة لم تستطع الحفاظ عليها بعد ذلك (باستثناء تونس)، ومن هنا فإن الموجة الجديدة للربيع العربي، التي اعتمدت سياسة النفس الطويل نجحت في تحقيق جزء كبير من أهدافها في السودان والجزائر، وما تزال تواصل طريقها لاستكمال باقي الأهداف، ففي السودان أطاحت بالرئيس عمر البشير الذي ظل قابضا على السلطة لمدة 30 عاما، وتوافقت القوى المدنية مع المجلس العسكري على خارطة طريق لفترة انتقالية تقاسما خلالها السلطة بضمانات دولية بغض النظر عن موقفنا من هذا التقاسم، وفي الجزائر نجت الثورة خلال شهر من انطلاقها في إجبار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على الانسحاب من الانتخابات الرئاسية (العهدة الخامسة)، ولم تكتف بذلك بل نجحت أيضا في إطاحة عدد من كبار رجال بوتفليقة ومنهم رؤساء الحكومة والبرلمان والمجلس الدستوري، وفرضت على المجلس العسكري تشكيل لجنة مستقلة لإدارة الانتخابات الرئاسية، وما تزال الثورة مستمرة لم تتوقف حتى الآن.

أحد النموذجين السوداني أو الجزائري، أو ربما نموذج ثالث هجين، هو المرشح للحالة المصرية الحالية، وعلى عكس ما يعتقده البعض أن السيسي عقب عودته من الولايات المتحدة التي لقي من رئيسها ترامب دعما سياسيا، وعقب حشده لعدة آلاف من أنصاره وطلاب الكليات العسكرية يوم الجمعة الماضي سيزيد قمعه للمعارضين، وسيعتقل آلافا جديدة منهم، فإن الأرجح أنه لن يستطيع فعل ذلك على المدى المتوسط والطويل، وإن كان قد فعله على المدى القصير أي خلال الأسبوع الماضي بين الجمعتين ( حيث تراوح عدد المعتقلين بين ألفين وثلاثة آلاف غالبيتهم من عوام الشعب، ولكنهم يضمون قادة حزبيين وأكاديميين ونشطاء مثل خالد داوود رئيس حزب الدستور، وحازم حسني المتحدث باسم حملة الفريق سامي عنان الرئاسية، والدكتور حسن نافعة والناشط علاء عبد الفتاح)، لكن على الأرجح سيض

طر للإفراج عن الغالبية العظمى منهم بشكل سريع مع تصاعد الموقف الدولي المندد بهذه الاعتقالات، وكذا بسبب الكلفة الاقتصادية الكبيرة التي تسببها حالة التوتر الأمني، التي تنعكس على حركة الاستثمار والسياحة بشكل أساسي.

وعلى ذكر الموقف الدولي، فإن الملاحظ أنه تطور سريعا مع الجمعة الثانية للحراك، وعلى عكس تصريحات ترامب الداعمة للسيسي سياسيا، فإن تصريحات مضادة صدرت من مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشرق الأدنى ومن عدد من أعضاء الكونجرس، وكذا مجموعة العمل الأمريكية من أجل مصر، كما صدرت تصريحات ألمانية رافضة لقمع المظاهرات، ورفضت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مقابلة السيسي على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، ونددت مفوضية حقوق الإسان بالأمم المتحدة بقمع المتظاهرين وطالبت بسرعة الإفراج عنهم، وأصدرت العديد من المنظمات الحقوقية الدولية الكبرى دعوات مشابهة، كما أن الأوضاع السياسية في مصر عادت إلى اهتمامات الصحافة الدولية بقوة، وعلى الأرجح فإن هذا الموقف الدولي الرافض لقمع المتظاهرين، سيتصاعد إلى مطالبات بإجراء إصلاحات سياسية لن يستطيع النظام الوقوف كثيرا أمامها، وسيضطر إلى قبول إصلاحات جزئية متدرجة، وسيكون العنصر الحاسم هو استمرار الحراك الثوري وتصاعده.